كلّما أمعنّا النظر في تداعيات أزمة القائمة المشتركة، خاصة بعد انفصال النائب أحمد الطيبي عنها في الكنيست، سيبدو لنا جليًا أنّ ما يحصل الآن ليس إلا فصلاً آخر في رحلة هذا «النيزك» نحو الارتطام الحتمي الأكيد؛ فهي وبمنأى عمّا ستفضي إليه محاولات إنقاذها وإحيائها، ستصبح بلا ريب، مجرّد تجربة لم تتوفر لها شروط البقاء، مذ ولدت في عملية قيصرية عاثرة، وإذا ما راهن البعض في حينه على عكس ذلك فعساه يرى كيف ستسجّل قريبًا في دفتر «الوفيّات السياسي»، وستُحفظ فيه تحت بند المغامرات المستحيلة التي خاضها بعض قادة الجماهير العربية في إسرائيل في زمن القحط والقهر والعجز.
لم تكن حكومة إسرائيل العدوّة الوحيدة للقائمة المشتركة، رغم ما استثمرته من جهود جبارة في محاربتها، ولم تتدخر في سبيل إفشالها مالًا ولا أبواقاً ولا عملاء، لكنّها مع كل ذلك، كانت ستفشل لولا وفر لها البعض أسبابًا ودوافع كانت كفيلة بتسريع القضاء عليها، كوليدة جاءت إلى هذا العالم وهي عليلة وضعيفة.
لن نكرر ما قلناه في الماضي، فالإبقاء على الإطار فقط كوسيلة تقنية جامعة لم يكفِ للحفاظ على وحدة الأضداد، ولا على رأب التصدّعات بين «الإخوة الأعداء»؛ ورغم مرور السنين وظهور الأزمات المتكرّرة، لم يسعَ الشركاء من أجل تطوير مفاهيم سياسية جامعة، واكتفوا بردّات الفعل الموضعية على سياسات الحكومة العنصرية، في حين حافظت كل مؤسسة حزبية أو حركية فيها على ميراثها الخاص، وعززته داخل أروقتها التنظيمية، مستمرة في التعامل مع الجماهير بالندّية التقليدية ذاتها مع شريكاتها، وفي كثير من الأحيان بالعداوة الموروثة نفسها من زمن حروب الواو والضاد وكل ألوان الوجع.
لم يقتصر همّ المشتركة على ما ذكرناه أعلاه، فقد عانت ربما أكثر، من الصراعات المستفحلة داخل الحزب الواحد بين قادته؛ وهي صراعات تحوّلت في بعض الحالات إلى معارك طاحنة رأيناها في الماضي ونراها في هذه الأيام أيضًا. فعلى الرغم من حدوث بعض تلك المعارك داخل الغرف الحركية والحزبية، إلا أنّ قعقعات بعضها ملأت أجواء مدننا وقُرانا، وأدّت إلى عزوف الكثيرين عن العمل الحزبي والسياسي، وبرّرت لآخرين تهجّماتهم على المشتركة ومركّباتها.
لم يجتهد قادة القائمة المشتركة في سبيل تطوير آليّات تشبيك متطوّرة وحقيقية مع الهيئات القيادية الأخرى العاملة بين الجماهير العربية، مثل لجنة المتابعة العليا لشؤون الجماهير العربية في إسرائيل، واللجنة القطرية للرؤساء، أو مع منظمات العمل الأهلي وما يسمّى بهيئات المجتمع المدني. لم ينبع ذلك عن قصور في الرؤى فقط، بل كان تعبيرًا حقيقيًّا عن افتقاد القائمة المشتركة إلى مقوّمات «الهيئة القيادية» المخوّلة لاحراز التقدم والتغيير، والقادرة على فرض «هيبتها» الريادية السياسية على مفاصل المجتمع، وبين أفراده. لم يقتصر فشل عناصر القائمة المشتركة على عدم تطوير رؤى سياسية جامعة أساسية، بل رأيناهم يستوردون المواضيع الخلافية إلى داخل صفوفها القيادية، ولم يكترثوا لكون بعض تلك المواضيع دخيلة على مصلحة الجماهير المحلية، ولا علاقة لها بهواجسهم الحياتية واليومية. فمن وقف منهم مع بشار استعدى من كان إلى جانب قطر، ومن هلل لبوتين أغضب أولاد أردوغان، وهكذا إلى أن تحولت هذه المناكفات لسهام تشبه تلك التي يغرزها مصارعو الثيران في جسد «ثورهم»، فتدميه بهدوء إلى أن يخرّ صريعًا.
واجهتنا أزمة المشتركة مع مخاضات واقعنا وخلاصتها أن لا حزب يستطيع العيش خارج «مياهه الإقليمية» وبدون حيّزه السياسي
لم يجتهد قادة المشتركة في وضع موقف أو خطة متفق عليهما ليكونا بوصلةً ترشدها في تعاملها مع الدولة ومع مؤسساتها، فلقد احتفظ كل مركّب فيها بمواقفه ازاء الدولة، رغم كونها مواقف متضاربة ومتناقضة. لقد أدّى غياب الاتفاق على مواقف الحد الأدنى التي تتيح للقائمة، كجسم تمثيلي جامع، العمل تجاه ومع منظومات الدولة، إلى شللها أحيانًا، أو الى شططها أحيانًا أخرى، أو إلى ردّات فعل فردية استجلبت ضد منفّذها هجمات من المزايدات ومن التقريع، ما جعل القائمة تبدو مرارًا في مشهد «كراكوزي» لم يحبّب الناس بها، وذلك في أضعف الحالات. بات تاريخ تقديم القوائم لرئيس لجنة الانتخابات الاسرائيلية وشيكاً؛ ولا بدّ أن يستنفد جميع الفرقاء خلال هذا الأسبوع كل أحابيل المناورة والمساومة والمزايدة. ورغم ما صرّحوا به في الأسبوعين الأخيرين، أشك في أن يبقى الفرقاء على مواقفهم، وقد يدفعهم الخوف من السقوط إلى أن «يقبلوا» بما يطالب به كثيرون من بين العرب المؤمنين بأنّ الوحدة، حتى إذا كانت عرجاء، آمن وأفضل من رقص الفرادى «الحنجلي». فاذا تمّ ذلك لا أعرف، عندها، من سيدّعي النصر ومن سيبكي ككبش الفداء، لكنني على قناعة بأن أفعالهم كما شهدناها طيلة هذه الأسابيع قد زوّدت الكثيرين من عامة الشعب بجرعة أخرى من السأم ومن الغضب، كانوا قد تجرّعوا مثلها يوم اندلعت معركة المحاصصات بُعيد دخول باسل غطاس إلى السجن، فروح الانتخابات البرلمانية ما زالت ترفّ على الكراسي وما يطمح له أحمد يحلم به مازن وما يعشقه منصور يهواه يوسف.
إنها معركة لن تنتهي إلا اذا كان صمغ «الوحدة» بين الفرقاء أثمن من مقعد ومن «ايچوهات» منتفخة، يؤثر بعضها أن تقف على عتبة اسمها الشراكة كي تمر فوقها نحو سماوات الزبد والشعارات العابرة.
لديّ إحساس وعندي قناعة بأنّ القائمة المشتركة، في حلتها الرثة، كانت آخر الوسائل التي اضطرت الأحزاب والحركات العربية تبنّيها، في محاولة بائسة لضمان «بقائها» في عالم السياسية الإسرائيلية المتغيّر، ورغم انّ ما سوّغ قيامها قبل أربعة أعوام كان حاجة تلك الاحزاب لعبور نسبة الحسم المرتفعة، فهي لم تُقلع ولم تتحوّل إلى «ضرورة وجودية» وذلك لما ذكرته من أسباب، ومن أخرى لا مكان لذكرها ههنا. ما انفكت جميع تلك الأسباب موجودة وستظلّ، إذ لا أرى كيف ولماذا ستزول، ولا من سيزيلها، فالمشكلة لا تكمن في فقه الوحدة، بل هي «ذاهبة بعيدًا في أجساد» تلك الأحزاب، التي كما قلنا مرارًا، قد شاخت منذ زمن وتكلّست مساكبها.
وأخيرًا، لقد واجهتنا أزمة المشتركة مع مخاضات واقعنا وإفرازاته الحقيقية، وخلاصتها أن لا حزب يستطيع العيش خارج «مياهه الاقليمية» وبدون حيّزه السياسي، والأَولى بإدراك هذه الحكمة كانت وما زالت «الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة» وهي الخاسرة الكبرى من جميع ما حصل.
كاتب فلسطيني