القاتل

حجم الخط
6

مثل لعبة إلكترونية، كان حامل البندقية يطلق النار على ضحاياه بسرعة فائقة، وفي خلال دقائق معدودات، كانت حصيلته قد بلغت رقما مخيفا، أما طريقة التصوير، وبثها مباشرة فكانت أقرب لهذه الألعاب المنتشرة في العالم أجمع، فهل يمكن إدانة مبتكريها؟ وتحميلهم مسؤولية ما حدث؟ إذ يبدو جليا أن هوس الرجل بطريقة القتل هذه نابع من تدربه على تلك الألعاب.
هذا رأي، في ما رأي آخر أدان العنف الهوليوودي، الذي وجه السلاح دوما للإرهاب على أنه إسلامي، فهل يمكن إدانة هوليوود وتوجهاتها القديمة المتجددة للتسويق للعنف؟ هل يمكننا أن نوجه أصابع الاتهام لجهة معينة غير القاتل الذي نفذ الجريمة بحماسة من يتسلى؟ وهل يمكن بهذه الطريقة أن نجد له مبررا، وكأنه وقع ضحية إيحاءات سينمائية أو غيرها؟ بالطبع لا، فالمجرم يتحمل مسؤوليته كاملة، حتى إن كان خلفه من حرضه عليها، فلكل واحد عقابه، أما تلك الرؤية الضبابية التي تبحث عن جهة مؤثرة بشكل غير مباشر في مرتكب الجريمة، فتلك حالة تستدعي الكثير من التمعن والتعقل، يجب أن ينتبه إليها من يرمي التهم يمينا وشمالا، فالمجرم يعاقب لأنه اختار ارتكاب الجريمة بمحض إرادته، وهنا عصب المشكلة.
إن أي مبرر للجريمة يعني الاستخفاف بعظمتها، ويقود دوما للتخفيف عن المجرم خلال محاكمته، وإيجاد عذر لاستمرار الجريمة. وهذا ما لا أرى داعيا له في كل الجرائم التي حدثت وتحدث في العالم أجمع، فبشاعة الجريمة تكمن في إزهاق روح مسالمة، أما خلال الحروب فلطالما ارتكبت مجازر، ولم يعاقَب مرتكبوها.
جريمة نيوزيلندا ارتكبت في بلد آمن، في مكان يؤمه مصلون عُزل، بعد تخطيط دام فترة طويلة، شملت هذه الفترة، متابعة أعمال العنف التي قام بها مسلمون في مناطق كثيرة منها الإسلامية وغير الإسلامية. وهو ما قام به متطرفون إسلاميون بتركيزهم على مدى فترة معينة على جرائم الآخر نحو أبناء طائفته. سنة 2016 في الحادي عشر من شهر ديسمبر/كانون الأول استهدف انفجار الكنيسة البطرسية في حي العباسية في مصر، وقُتل يومها ستة وعشرون شخصا، وأصيب تسعة وأربعون من المصلين. قبلها بسنوات تحديدا سنة 2011 أردى انفجار واحدا وعشرين شخصا وأصيب ستة وسبعين كانوا يصلون ليلة الميلاد في كنيسة القديسين في منطقة سيدي بشر في الإسكندرية في مصر أيضا. مسلسل من التفجيرات استهدف أقباط مصر، من طرف متطرفين إسلاميين، لكن المختلف بين تلك التفجيرات ومجزرة نيوزيلندا، هو أن المجرمين لم يوثقوا لعملياتهم الإجرامية، ورغم توجع الضمير الإنساني العالمي إلا أن ردات الفعل تباينت، ولنقل بشجاعة أن القبطي المظلوم حمل وجعه وحده، أمام تنديدات لم تكن بقوة التنديد النيوزيلندي ضد جريمة المسجدين. علينا اليوم أن نتحلى بالشجاعة اللازمة، ولا نبرر لجريمة وندين أخرى، وأعتقد أن دور النخبة اليوم هو الحفر في القلوب المريضة بالتطرف، واقتلاع جذور الكراهية منها. غير مقبول اليوم أن نلعب دور المتفرج المتأفف من بعيد، فيما أعمال العنف تحصد أرواح الأبرياء في أماكن العبادة والمدارس والشوارع.

أي مبرر للجريمة يعني الاستخفاف بعظمتها، ويقود دوما للتخفيف عن المجرم خلال محاكمته، وإيجاد عذر لاستمرار الجريمة.

لقد لعبت الأيديولوجيات المتطرفة، بعقول آلاف الشباب من شتى أصقاع العالم، وجندتهم فقط لممارسة العنف القاتل، وتصفية أناس أبرياء، إذ في كل الجرائم التي حملت راية حماية الدين، أو تصفية طائفية أو عرق، في الشرق الأوسط أو إفريقيا، أو العالم العربي أو الأوروبي لا عداء شخصي بين القاتل والمقتول سوى مفهوم ضبابي يعطي للجريمة مبررا لتحدث، وكلما حدثت، جاء الصمت العالمي الذي يكلله بعض من الإعلام المؤثر ليستمر، شيء لا يُصدق ولكنه حدث ولا يزال يحدث، خاصة حين أُخضِعت مشاعرنا لقانون السوق، وأصبحنا جاهزين للتعاطف حسب العرض والطلب، مع جهة دون أخرى، وفق توجيهات إعلامية معينة، بإثارة الحدث وتعليبه، وفق نقاط ضعف المتلقي، هذا من جهة، أما الجهة الأخرى فهل استغلال الدين في المجتمعات المتدينة وتقسيم البشر إلى قسمين، من هم أخوة لنا، ومن هم أعداؤنا، بسهولة يمر الخطاب الذي يجند مشاعرنا مع أخوتنا في الدين، لنجد أنفسنا نبارك الجريمة ضد من يختلف معنا في المعتقد، وهذا من أخطر مبررات الجريمة في العالم أجمع. كون هذا المبرر ينجب مفاهيم فرعية، تبلغ قمة الوقاحة، حين تبيح تصفية أبناء الطائفة الواحدة، بسبب اختلاف بسيط بين المذاهب والاجتهادات، وهي كلها ليست أكثر من وجهات نظر تخص أصحابها، ولا يمكنها أن تذهب أبعد من ذلك.
نعم ندين جريمة نيوزيلندا، ندينها بوجع قطّع أوصالنا، وجرح ضاعف صدمتنا، ولا يمكننا أن ندين غير مرتكبها والمجموعة المريضة التي ينتمي إليها، المثخنة بضغائن وكراهية عمياء نحو الآخر المختلف، ولكن هل تكفي الإدانة والمحاكمة؟ هل يكفي المؤبد لهذا القاتل وشلته؟ هل يكفي الإعدام لقتلة قبله قتلوا الأبرياء في المساجد، والكنائس، والأماكن المقدسة التي يلتقي فيها الحجيج من كل لون وجنس؟ هنا الثغرة الكبيرة التي تركها صمت المثقفين، فترميم القلوب المليئة بشروخ الكراهية مهمة الشاعر والأديب والمسرحي والفنان، فماذا قدمنا قبل أن تصبح سمعتنا كمسلمين ملوثة بكل أنواع التهم؟ قبل أن نتهم هوليوود، وأمريكا، والغرب الذي نلعنه ليلا ونهارا، كيف عالجنا الأمر؟ هل نحن أبرياء؟ حين هربت قوافل من الكتاب والأدباء والناشطين من قمع مشترك بين الأنظمة والمجتمعات العربية، فيما تكرس الخطاب نفسه الذي يدين الغرب وحده؟ أعتقد أن الأغلبية رسخت لتلك الكراهية نحو الآخر، حتى حين كانت قنابل بعض الأنظمة الحاكمة تهوي على رؤوس أبنائها، كانت التهمة موجهة للغرب، وكانت الأصابع تقول إنه هو السبب، هو الذي صنع الجماعات المتطرفة، هو الذي جندها، هو الذي غذى تلك الأحقاد!

أليس عجيبا أن يمارس المجرم جريمته خلال كل هذه السنوات، واتهاماتنا المباشرة توجه نحو غيره؟

أليس عجيبا أن يمارس المجرم جريمته خلال كل هذه السنوات، واتهاماتنا المباشرة توجه نحو غيره؟ فعليا هذا نوع من التجني نحو أنفسنا، وشحن للقلوب الضعيفة بكراهية مستمرة نحو الآخر، لقد عجزنا وهذا اعتراف شجاع مني عن كتابة أدب إنساني، يبني وعيا حقيقيا لدى الأجيال القارئة، فشلنا أيضا في خلق بيئة تقودها أوركسترا تعزف معزوفة الحياة لا الموت، لهذا ليس غريبا أن لا نفهم بعض الرسائل المشفرة التي حملها أدباء قلة في نصوصهم، مبينين كيف لأبناء «سي السيد العربي» – الذي يفرد سلطته على بيته، ويكمم أفواه أفراد عائلته ـ بإمكانهم أن يتظاهروا ضد شتى أنواع الاستعمار الغربي، والممارسات الإمبريالية رافعين شعارات كبيرة، ولكنهم يتخبطون أمام والد متسلط، ويقضون حياتهم يزحفون أمامه من شدة الانحناء. قرأنا هذه القصص عند نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس، يوسف إدريس، وسهيل إدريس، والطيب صالح، محمد شكري وهو نموذج استثنائي، قمة في الجرأة في وصف قسوة الأب وسلطته الجائرة… وآخرين .
لكن يحضرني ما قاله محمد درويش هنا:

« …ووالدي كعهده
يسترجع المناقبا
ويفتل الشواربا
ويصنع الأطفال
والتراب
والكواكب»
من قصيدة طويلة، حافلة بتفاصيل السلطة الأبوية، المغايرة تماما لتفصيلات الأم الحاضنة، الجميلة، المصغية، المحدثة، يقول أيضا: «يا أبي لمَ لمْ تقل لي مرة
في العمر: يا إبني، كي أطير إليك بعد المدرسة؟
لمَ لمْ تحاول أن تربيني كما ربيت حقلك سمسما، ذرة، وحنطة»
يا إلهي كم جرحنا عميق، كم خطايانا نحو أنفسنا كبيرة، فهل يمكن لخطاب نهضوي جديد أن يذيب جليد هذا الماضي الذي يغلف أفئدتنا؟ هل يمكننا أن نتوقف عن إنتاج ثقافة عرجاء تتكئ على عصا العنف، ونبدأ في إنتاج ثقافة مسالمة، تنتصر للإنسان وللحياة، ونترك الموت للخالق لا للمخلوق، وإلا فكلنا سنكون قتلة.

٭ شاعرة وإعلامية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول نابليون العربي:

    ياأخت بروين..أنت سيدة متمييزة القلم.لنكن صادقين : ما قام به القاتل الاسترالي ليس حالة فردية بل هو استمرار للحروب الصليبية
    بطرق جديدة.أليس هناك ذئابا منفردة من المتطرفين في بلادنا ، هم لديهم أيضا ذئابهم المنفردة.يعني واحد زائد واحد يساوي اثنين…

  2. يقول رياض-المانيا:

    ومن قال ان اسلاميين متطرفين هم من قاموا بتفجير الكنائس؟ حبيب العادلي اعترف أثناء التحقيقات بعد ثورة يناير وكل ذلك موثق في ملفات أمن الدولة أن المخابرات المصرية في عهد مبارك هي من قامت بتفجير كنيسة القديسين على سبيل المثال لالصاق الجريمة بحماس بسبب تعرض مصر للضغط في ذلك الوقت ورمي صور مبارك بالأحذية. أما هذا الإرهابي فاعتقل متلبسا وما يسمى بتفجيرات يقوم بها متطرفون اسلاميون كما يسمون تلصق بهم بمجرد حدوث التفجير حتى بلا تحقيقات. في اي عالم نعيش؟ مالكم كيف يتحكمون. متى ينتهي تحال ( المثقف) مع المستبد؟

  3. يقول تيسير خرما:

    يخلط مسيحيون بين الإسلام وبين إمبراطورية عثمانية نشأت من قبائل مغول بإرث همجي يناقض الإسلام فدمرت ونهبت البلقان وشرق أوروبا وقتلت رجال وسبت نساء وجندت يتامى أطفال بجيش إنكشاري همجي وجوعت وقصفت مدنيين عزل داخل أسوار القسطنطينية بمنجنيقات حارقة وهجرت الباقين غرباً وشمالاً وحولت كنيسة آيا صوفيا لمسجد وذبحت مليون أرمني وشردت الباقين بل وقمعت مسلمين عرب وفرس وأكراد، وكل ذلك يناقض ثقافة أول دولة مدنية بالعالم أنشاها محمد (ص) بوثيقة المدينة تحترم مكونات وحقوق إنسان ومرأة وطفل وتحمي نفس ومال وعرض وعدالة

  4. يقول S.S.Abdullah:

    لماذا الإلحاد أو العلمانية في عملية فهمها يحب أن تكون ليس لها علاقة بأي دين، مع أنه يمكن تكوين عليها أحزاب سياسية كذلك؟!

  5. يقول الشربيني المهندس / مصر:

    تحية تقدير (لقد عجزنا وهذا اعتراف شجاع مني عن كتابة أدب إنساني، يبني وعيا حقيقيا لدى الأجيال القارئة، فشلنا أيضا في خلق بيئة تقودها أوركسترا تعزف معزوفة الحياة لا الموت) فمن يقرأ الكتاب ولكن الصورة لها السبق والأفلام اصبحت رؤيتها اسهل .. الالعاب درامية وتجار السلاح لهم اليد الطولي وغسيل الأموال له منافذه ودعواتنا ان يرحمنا ..

  6. يقول سلام عادل(المانيا):

    الاخ رياض-المانيا
    حتى لو كان كلام العادلي صحيح فهل كانت ردة المجتمع المصري ككل بجميع مؤسساته كردة فعل النيوزلنديين اتجاه جزء من شعبهم رغم الفارق الكبير بين مصر ونيوزلندا فالاقباط ليسوا مهاجرين وهم من قدم لمصر عبر تاريخها كشعب الكثير من الانجازات ,هذا هو المهم التلاحم بين ابناء الوطن الواحد,والكلام ينطبق على العراقيين في ماساة المسيحيين والايزيديين

إشترك في قائمتنا البريدية