دخلت السنة الجديدة ولم تتوقف الحرب على غزة بعد، ولم تبدأ بعد المرحلة الثانية من هذه الحرب، المرحلة التي لن يصورها الإعلام ولن تنتشر صورها على وسائل التواصل ولن يعتصم من أجلها الناس ويخرجوا في المسيرات الضخمة المستحقة. من كان يتصور، حتى أكثرنا براغماتية وفهماً للسياسات العالمية القبيحة، أن تستمر حرب بشعة ضد الأطفال على مرأى ومسمع من العالم أجمع، أن يقصف الصغار وهم أجنة في الأرحام، خدج في الحاضنات، حديثو الولادة في أحضان الأمهات، صغار في أسرة بيوتهم، يافعون في مدارسهم، هكذا بلا خوف من رد فعل عالمي، وبلا حياء حقوقي أو مانع إنساني أو استشكال قانوني أو موقف جمعي «أمم متحدة» أو حتى بلا دافع من غريزة إنسانية بحتة لحب البقاء، يوقف هذا الجنون ويحمي صغاراً لا ذنب لهم في صُنْعِه ولا يد لهم في تبعاته؟ من كان يتخيل أن تحدث جريمة عالمية بشعة كتلك، والعالم يناظرها لحظة بلحظة، لتستمر على مدى شهرين وما زالت، وبضحايا يفوق عددهم الإثنين وعشرين ألفاً من المدنيين، في هذا القرن الجديد للحقوق والمبادئ الإنسانية؟
إلا أن الآتي سيكون أصعب، سيكون هو الحرب الحقيقية والصراع الدامي، سيكون هو المعاناة طويلة الأمد. أولى مصائب السنة المقبلة الجديدة هي ضبابية مصير قطاع غزة الذي يتعرض لمحاولة واضحة وصارخة «للإخلاء»، للسرقة عبر تقتيل وطرد أهلها، حتى تتحول إلى الميناء المأمول للصهاينة وحلفائهم الذين سيرسون بأطماعهم على شواطئها. لن تكون محاولة إخلاء غزة وتوطين مستوطنين جدد فيها هي الأولى من نوعها، إلا أنها بالتأكيد العملية الأكبر حجماً والأكثر وحشية في تاريخ استعمار فلسطين، والأصعب على المستعمرين الذين تبنوا «مشروعاً» أكبر من حجمهم، وها هم يغرقون في منتصفه.
ليس هناك سيناريو معقول يقع من خلاله القطاع في يد الصهاينة، وله أهل مثل الغزاويين ومقاومة «بيّاعة» مثل حماس، وتأييد مثل التأييد الشعبي العالمي الحالي، وتوثيق مثل التوثيق اللحظي المستمر الحاصل الآن من خلال وسائل التواصل. لكن القادم بلا شك سيكون مريراً وسيشكل حرباً أخرى على مستوى آخر من الصعوبة والمعاناة. أصعب القادم سيتجلي في السيكولوجية المكلومة المهترئة لشعب كامل، شعب اختفت منه عائلات كاملة، تيتمت أعداد كبيرة من أطفاله وأصيب بالثكل عدد هائل من آبائه وأمهاته، وتراكمت في حيزه الاجتماعي المثقل بالأسى والفقد مسؤوليات متداخلة لأشخاص سيربون أطفالاً آخرين، ولصغار سيحيون مع أسر جديدة، ولأسى سيتراكم بشكل غير مسبوق لفقد جمعي لن يعرف الناس طريقة واضحة للتعامل معه. كيف سيستمر رجل فقد زوجته وأطفاله السبعة كلهم دفعة واحدة في حياته مثالاً؟ كيف ستتحمل جدة مسؤولية أربعة أحفاد هم كل من تبقى لها من أسرة من واحد وخمسين شخصاً؟ وكيف ستبدأ من جديد شابة أصبحت وحيدة تماماً في الحياة؟ وأي إعلام سيصور هذه الدقائق اليومية العسيرة والآلام النفسية الخفية التي ستشكل بنية سيكولوجية غزاوية لفترة طويلة من الزمن؟
ولأن غزة قطاع صغير جداً مقارنة بأعداد قاطنيه، فإن العودة بالارتفاع العمودي ستشكل صعوبة وتحدياً كبيرين. هل سيكون الإعلام حاضراً ليوثق صعوبة إعادة البناء، ليوثق عقبة تنظيف القطاع وتسوية أرضه المرضوضة في كل جزء منها والتأكد من دفن شهدائه الذين غطوا مساحات كبيرة من أرضه، ليوثق التعامل مع الأوبئة والأمراض الناتجة عن هذا الموت الجمعي الذي ترك أجساد الشهداء بلا حرمة دفن؟ هل سيسجل الإعلام العمليات المضنية القادمة لإعادة فتح المدارس والمستشفيات، لأمهات يحاولن تدبير اللقمة، وآباء يسعون من أجل شربة ماء نظيفة، وصغار يسعون للتركيز في دراسة تعيد لهم شيئاً من طبيعية الحياة؟ هل سيكون الإعلام حاضراً والقطاع يتعامل مع المواضيع الحساسة التابوهية، كمعالجة الحالات النسائية العائدة من الأَسْر وما نتج عنه من تعذيب واغتصاب، كمواجهة الاحتياجات النسائية التي عادة ما تأتي في آخر الاهتمامات، مثل الاحتياج لأدوية معينة أو أدوات نسائية محددة تحديداً، كالحافظات النسائية التي تبدى نقصها الفاحش إبان الحرب كعقبة ومشكلة اجتماعية ونفسية وصحية ضخمة عند النساء؟
هل سيكون هناك وقت للتعامل مع المشاكل النفسية للأطفال، وأهل القطاع يرصفون شوارعه ويبنون منازله ويحاولون تنقية هوائه ومياهه؟ هل سيستشعر الشباب أحقيتهم في العودة لحياتهم الشابة الطبيعية، ومعاودة ملاحقة أحلامهم والاستمرار في العمل من أجلها، أم أنهم سيشعرون أن كل هذه الآمال والتطلعات أصبحت خلف ظهورهم الآن، وأن عليهم الآن دوراً جديداً ملزِماً بالبقاء والبناء والنضال ومساندة الأسرة وكسب العيش، وكلها مسؤوليات وتجارب تفوق أعمارهم بمراحل وتقتل أحلامهم في مهودها؟ وهل سيكون الإعلام موجوداً ليسجل كل لحظات هذه الحرب الحياتية اليومية الاقتصادية والاجتماعية والنفسية الضروس؟
هذا هو الآتي من أجل غزة، هذا هو المشهد المتوقع بعد أن تتوقف آلية الحرب البشعة و»يعم الهدوء» وتغادر كاميرات الإعلام وتهدأ «مانشيتات» الصحف وتتراخى الاعتصامات والمسيرات حول العالم. عندها، ستبدأ الحرب الحقيقية، ولن يكون هناك من يوثقها.