دائماً هناك شيء جديد في القاهرة، لم تره، أو لم تزره، أو لم تتحدث عنه، فالقاهرة عالم واسع الفضاءات، مترامي الحكايات والأطراف والمعالم، تصحبك إلى أي مكان تنشده وترتاح إليه، تاريخها يظل مضاءً لا ينام، يسهر معك، لكي يدلك على الحاضر، سمارها كثيرون، وعشاقها أكثر. في الشتاء ترتدي معطفها الذي فصلته الشمس لها، وفي الأصياف تأخذك إلى رصيف النيل لتبلّ جبهتك بالرذاذ، أضواؤها تسير معك كفتاة، لتضيء أعماقك، والشمس في الصباح تحاول غسل أطرافك وتشطف داخلك البارد. في النهار ترنّ بالضجيج والأصوات وحرية الهدف، كلٌّ يمضي على هواه، يصرخ ليحاكي الخلاء، يمرح، أو يجهش ويتهدّج، فقرها ستر من حرير، مستور بالشموس والدفء والغنى الروحي، نداء الجوامع يملأ الأرجاء، ورنّة جرس الكنائس توقظ الطير، ليقول غناءه اليومي من بين الشجرات، حتى لو كانت مغطاة بالغبار، فلسوف يأتي المطر في لحظة ما ويغسل الأرجاء والسطوح وواجهات البنايات، ويغسل رؤوس الشجر، وكراسي المقاهي المصفوفة في الشوارع، ومداخل الحارات والأسواق.
شاي وقهوة ودخان، وأنت أمام مركبات تصخب بأبواقها، وعربات تمر بباعتها، ودراجات نارية تطير في الأنحاء، وتفكك الطمأنينة لتحوّلها إلى مشهد عادي، مشهد أن تستمتع بالغلو من الأصوات، لا نظام هنا للصوت، فهو حر طليق، ينطلق من الحناجر وأبواق السيارات، ورنين الدراجات النارية العابرة للصوت. كل شيء هنا محكوم بالتمادي، المزاح المصري، الروح الخفيفة حين تدوّي وهي تعبر يومها العادي، والقهقهات تسيل في كل زاوية وشارع ومقهى.
إنها الحياة متحرّكةً، جوالةً، سائرة بألف قدم وساق وحنجرة، ولأنني ممتلئ بالشتاءات ومحفوف بالبرد وملفوفة روحي بالصقيع، أحتاج في كثير من الأوقات الى بلد عربي، إلى شمس أستدين منها دفئاً لي، حتى لو كان قصيراً لا يغطي مجمل شهور العام، لكني أحتاجه كمرهم مؤقت، يكفي لعلاج بضعة أيام من أيام العام الباردة، أرنو فيها وأنا في القاهرة إلى القليل من الشموس الثقيلة.
الشاعر الصديق باسم فرات، يهتف لي وأنا جالس كعادتي في مقهى «التحرير» آخذ قهوتي وقسطاً من الشمس، قبيل انطلاقي إلى معرض الكتاب، أجيبه فيقترح عليّ رحلة قصيرة في اتجاه وليّ من أولياء الله، فأوافقه على المقترح لغرض الاستزادة والإضافة والاكتشاف. نلتقي في مدخل محطة مترو «التحرير» نتحرّك معاً، سنحتاج للوصول إلى مقام الولي مالك الأشتر النخعي إلى ثلاث عشرة محطة، حتى نصل إلى أطراف مدينة بعيدة. من هناك سننطلق إلى المرقد الديني، في الحال نفعل ذلك، نأخذ المترو، وهو وسيلة نقل عظيمة، ورحمة كبرى في عاصمة مكتظة بالسكان والسيارات والحافلات، ومختنقة على الدوام بالزحام البشري.
الوقت سيمضي سريعاً، كونك ستكون منشغلاً بمن سيصعد إلى القاطرة ويعرض بضاعته. ففي الفسحة المتوفّرة في المترو سيعرض البائع ما لديه، لتكون أنت في مسرح سائر في مترو، البائع سيمثل للناس أهمية ما يحمله من بضاعة، كونه سيتحرّك ويُصوّت بصوته الجهير، والمبحوح من كثرة الاستعمال على أهمية ما يحمله، منها الشوكولاتة والحلويات، وبعضها أدوات كهربائية، أو لواصق لشيء ما، يفك اللاصق للتجربة، ويلصقه في سقف المترو، ثمّ يضع عليه قابساً كهربائياً، ليرينا مدى أهمية اللاصق المعلّق في السقف، الذي يحمل هذه المادة الكهربائية الثقيلة، بعضهم يشتري، والبعض الآخر يتفرّج، بعدها يصعد آخر ويُصوّت على ما يحمل، فيُخرج من حقيبة في يده عروة يلصقها في سقف القاطرة، يعلّق بها معطفاً قصيراً، ويمضي ينادي على ما يبيع، وهكذا دواليك الى أن تصل المكان المرجوّ، لتخرج من القاطرة وكأنك كنت في مسرح جوّال ممتع.
في الخارج المزدحم بالناس وعربات الباعة والأصوات، نحاول الاستدلال على المكان الذي نحن بصدد الذهاب إليه، يدلّنا بعضهم، فنقصد مرقد الوليّ النخعي، ويسمّى تسمية أخرى من قبل العامة من المارّين بـ»العجمي» نستقل «التكتوك» ذا الزيّ الموحّد، أسود وأصفر وهو شبيه بنحلة كبيرة، لينقلنا إلى هناك.
كانت هذه هي المرة الأولى في حياتي التي أستقل فيها هذه الواسطة الغريبة، واسطة نقل مرعبة، وهي تنتقل من مكان الى آخر، لتزجّ بنفسها في أتون متعرّج من السيارات الخفيفة والثقيلة، وفي منطقة تعجّ بالعشوائيات والمهملات والمتروكات، ناهيك عن الأغبرة والطريق الترابية المليئة بالحفر والتعرّجات الخطرة. كاد سائق «التكتوك» أن يودي بنا أمام ناقلة كبيرة لولا حنكة السائق المقابل، هذا الذي أنقذ حياة كائنين من تهلكة واضحة، شكرنا الله على النجاة، من محور الخطر المثلث، تراب وريح وغبار، وصعود وهبوط وتقهقر الناقلة، أي «التكتوك» بين الحفر العالية والواطئة… إلى أن كتب الله لنا النجاة، وربما شفع لنا الإمام، ونحن أمام هذا المآل والمصير الغامض، فسارع وأنقذنا من المحنة، ونحن نتقدّم إليه، بإرادة مستميتة.
في المدخل يستقبلنا الحارس، بوجه بسّام وروح رائقة. المكان بدا هادئاً، ناصعاً، نظيفاً. تحف به شجرات وطيور وأقواس بناء جميل وغابر. يعيدنا إلى مصر القديمة، مصر الملكية وطراز البناء الإيطالي، والعمران المعروف بالطراز الخديوي. ترتاح النفس في المكان الأنيس، المحاط من الخارج ببقع من الأرض المغبرّة، إنه مكان للتأمل والسرحان والصلاة.
في اليوم الذي سيليه وقبيل سفري، سأكون صحبة الناقد رضا عطية، في مقهى «زهرة الستراند» الهادئة. كان الجليس الدائم لهذا المقهى الملحن محمد سلطان رحمه الله، إذ سبق لي والتقيته قبل سطوع «كورونا» في هذا المكان. هنا سأقترح على الصديق الذهاب الى منطقة شبرا التي لم أزرها، فوافق في الحال، أيضاً استقللنا المترو، حتى وصلنا إلى هناك. فهي ليست بعيدة عن «ميدان التحرير».
نصل إلى شبرا، التي كانت في يوم ما خليطاً من يونانيين وإيطاليين وعرب، مسيحيين ومسلمين وربما يهود أيضاً. المدينة الآن يتعدّى سكانها الثمانية ملايين، ضاجة أيضاً مثل أي مكان في القاهرة، بالناس والباعة وأبواق السيارات، إنها منطقة حيوية، لكنها حيوية عشوائية، إنها مدينة المطرب محرم فؤاد، التي درس ونشأ فيها. نجلس لنأكل في مطعم صغير على الرصيف، يبيع الكشري، صوّر فيه المطرب العاطفي محرّم فؤاد إحدى أغانيه «بحبك يا شبرا» فضلاً عن كون شبرا تضم جامع» الخازن داره» الرفيع في طراز تشييده وبنائه، ويُذكّر بالعمارة التركية القديمة، وكذلك كنيسة «سنت تيريزا» الجميلة بأعمدتها التاريخية، والبناء الملحق بها، والخاص بمدرسة ومنام للرهبان، أحواض مرمرية في الكنيسة ونوافير صغيرة، ثمة تمثال كلسي للعذراء في مدخل الساحة المشجّرة للكنيسة، يتموضع عند بوابتها الحديد، يستقبلنا بيد كريمة.
كاتب عراقي