قبل عقد تقريبا من الآن، حاولت الأنثروبولوجية الأمريكية ليسا وين، في كتابها الشيق «سياحة الليل سياحة النهار» تفكيك الصورة الثنائية التي عادة ما ترسم في القاهرة عن الزائرين لها. إذ يظهر الخليجيون، في هذه الصورة النمطية، ممارسين سياحتهم ليلا بين البارات وشارع الهرم. بينما يبدو الأوروبيون في المقابل مستيقظين صباحا للذهاب ورؤية آثار الأهرامات، بما يوحي بأنهم يقضون زياراتهم في التعرف على جغرافية المدينة وتاريخها، خلافا للخليجيين الكسإلى، الذين لا يستيقظون إلا في ساعات متأخرة. يومها وجدت ليسا وين أنّ هذه الصورة أو الواقع، لا يعود إلى كون الشرقي مولعا بعالم الجنس والراقصات، خلافا للغربي المولع بالثقافة، وإنما يعود إلى كون صورة القاهرة قد تشكّلت في ذهنية الخليجيين من خلال أفلام السينما. ولذلك فهو يقرر في سياحته تتبع مسارات أبطال هذه الأفلام، والجلوس في مقهى الفيشاوي، أو في شارع شبرا، والأكل من عربة فول، وعيش الحياة كما شاهدها في الأفلام. وبالتالي فهو يشعر بالغربة عندما يزور الأهرامات، لأنّ القاهرة بالنسبة له هي قاهرة عادل إمام ونبيلة عبيد، وأجوائها وراقصاتها.
وعلى الرغم من أن هذه الصورة عن القاهرة، تبدو أيضا غير واقعية أحيانا، لكن ما يلاحظ في عمل الباحثة الأمريكية هو مدى التأثير الذي لعبته السينما المصرية في القرن العشرين على صعيد خلق صورة متخيلة عن القاهرة. وقد شكّل هذا الجانب موضوع اهتمام الباحث المصري نزار الصياد أستاذ العمارة في جامعة كاليفورنيا، الذي انشغل منذ قرابة 20 سنة في تدريس العلاقة بين المدن وتمثيلها في السينما، في كتابه «المدن السينمائية» عبر فكرة تقول إنّ الصورة التي تخلقها السينما عن المدن لا تمثّل الواقع فقط، بل تتحول أيضا إلى أدوات لخلق وتدعيم المدينة الحقيقية. وسيدفع هذا الاهتمام الصياد وعددا من الباحثين المصريين في عام 2018 إلى إنشاء مجموعة عمل «القاهرة السينمائية» لدراسة الأفلام القاهرية، كمادة خام لرواية التاريخ البديل للقاهرة المتخيلة. وقد صدر مؤخرا نتاج عمل هذه المجموعة في كتاب بعنوان «القاهرة السينمائية: عن المدينة والحداثة بين الصورة والواقع» عن دار المرايا للثقافة والفنون. ويرى الصياد في تقديمه للكتاب أنّ الكثيرين من سكّان القاهرة وبعض زوارها، مولعون بالمدينة ومبانيها وحياتها الاجتماعية، مع ذلك فإنّ قسما منهم لا يدركون، أنّ فهمهم للمدينة يعتمد إلى حد كبير على صورتها في الأفلام التي شاهدوها، والتي انطبعت في أذهانهم بلا وعي. ولذلك سيحاول المشاركون في الكتاب دراسة صورة القاهرة كما ظهرت في الأفلام.
وعلى الرغم من أن هذه الصورة عن القاهرة، تبدو أيضا غير واقعية أحيانا، لكن ما يلاحظ في عمل الباحثة الأمريكية هو مدى التأثير الذي لعبته السينما المصرية في القرن العشرين على صعيد خلق صورة متخيلة عن القاهرة.
وفي هذا السياق، يدرس نزار صياد ومحمد سلامة قاهرة نجيب محفوظ السينمائية، إذ لم يعبر أي كاتب عن المدينة في تذبذبها بين الأصالة والتغير، كما عبر عنها نجيب محفوظ في أعماله الروائيةظن التي انتقلت إلى عالم السينما. فقد قام المخرج المصري حسن الإمام بتحويل ثلاثية محفوظ «بين القصرين» و»قصر الشوق» و»السكرية» إلى أفلام. وفي الرواية الأولى «بين القصرين» يمنع السيد أحمد عبد الجواد زوجته أمينة من مغادرة المنزل نهائياً إلا لزيارة أمها. واختار الإمام أن يسلط الضوء على سطح منزل الأسرة، حيث توجد حظيرة الدجاج، المكان الذي يمكن أن تهرب إليه الزوجة وابنتاها من سيطرة الذكور للترفيه أو التواصل مع الجيران، كما أنه المكان الذي وفّر للشباب إمكانية الحب الممنوع. ويلتقط الفيلم إحدى لحظات التغيير في المدينة القديمة في أوائل القرن العشرين، حيث شجع نمو الأحياء الجديدة خارج قلب القاهرة القديمة العائلات الثرية والنخبة على الانتقال إلى ضواحي جديدة مثل مصر الجديدة، ما أتاح للطبقة الوسطى وتجارها الحلول محل الأولى. وفي الفيلم يلخص الأب السيد أحمد عبد الجواد (الذي يمثله يحيى شاهين) التقاليد المعتادة لديكتاتورية الذكور المحلية، فهو لا يتوقع اعتراضات على أوامره من قبل زوجته.
وفي الفيلم الثاني يقتل أحد أبنائه أثناء التظاهرات المضادة للاحتلال البريطاني، ويأخذ موضوع طلاق ابنه الأكبر ياسين الحيز الأكبر. بينما في الفيلم الثالث نرى تكاثر أفراد العائلة. وهكذا تظهر القاهرة الحديثة رويدا خلال مسار الأفلام بلقطات مثل قبة جامعة القاهرة والشوارع ومدارس البنات الثانوية والعمارات ذات الطرز الأجنبية. ونجد أنّ السطوح لم تعد أماكن لقاء العشاق، إذ تنتقل العائلة نحو السكرية لتعيش في شقة في عمارة فيها سلم يستخدم الجزء السفلي منه للتفاعل غير المباح بين الجنسين. كما نرى في الفيلم الأول الأب وهو يجلس على طبلية في حين تقف زوجته وبناته اللاتي يحضّرن الطعام خلفه في انتظار انتهاء جميع أفراد الأسرة الذكور من طعامهم. لكن بحلول زمن فيلم السكرية، يبدو أنّ كل هذه الصور الهرمية اختفت. وقد جاءت أعمال محفوظ اللاحقة مثل «القاهرة الجديدة» لترصد لنا، من خلال تحويلها إلى عمل سينمائي، قصة عباس الحلو، الحلاق المحلي، وحبه لجارته حميدة ورغبته الملحة في الزواج منها. لكن عباس لا يملك المال اللازم للزواج، ولذلك يقرر الذهاب للعمل في معسكر للجيش الإنكليزي، بينما يتمكّن أحد القوادين من إقناع حبيبته بالدخول إلى عالم المومسات. ونعثر أيضاً على صورة عازف الربابة أو الحكواتي الذي يتعرّض للطرد من صاحب المقهى بسبب حلول الراديو مكانه، في إشارة إلى دور الحداثة في حلول الآلة مكان الفلكلوري. وهكذا يصبح المشهد نموذجا مصغرا للقاهرة القديمة، موقع الانحلال الأخلاقي للمجتمع الصغير في فترة ما بعد الحرب.
وفي فصل آخر، تتناول المهندسة الأكاديمية تيسير خيري فكرة الهروب من المدينة من خلال فيلمين تم عرضهما في منتصف ثمانينيات القرن العشرين. الأول «خرج ولم يعد» 1984 من إخراج محمد خان، والثاني «هنا القاهرة» إخراج محمد عبد العزيز. وتختبر، في الفيلمين، تجربة العيش في القاهرة من منظورين مختلفين ترويهما شخصيتان مميزتان حضري وقروي. ففي الأول تتمحور الأحداث حول (عطية) شاب من الطبقة الوسطى (يلعب دوره يحيى الفخراني) الذي يكافح لشراء شقة لتكوين أسرة. وتظهر الكاميرا حياته في حي فقير مليء بالقمامة، وفي أحد الأيام تدعوه خطيبته لتناول الغداء في منزلها، وهناك تعبر والدتها عن تذمرها من طول مدة خطوبتهما، التي طالت سبع سنوات، ولذلك سيقرّر البطل الذهاب إلى الريف لمدة يومين لبيع ميراثه من أرضه الزراعية. وبينما تحمله السيارة مغادرا القاهرة، يتغير الأفق شيئا فشيئا، من الكتل الخرسانية الشاهقة لمساكن جديدة إلى الأراضي الزراعية الخضراء، ليبدأ مزاجه بالتحسن بمجرد وصوله إلى الريف.
وتلاحظ خيري أنه على مدار تاريخ صناعة السينما المصرية غالبا ما جرى إضفاء طابع رومانسي على المدينة بوصفها مركز الثقافة ومنارة الحداثة، مع ذلك نراها في الفيلمين تظهر كمدينة شديدة التلوث.
ويبني علاقة قوية مع المشتري كمال بك (فريد شوقي) ويتزوج من ابنته (خوخة) ويقرر أخيرا عدم العودة إلى القاهرة مرة أخرى. وفي «هنا القاهرة» يبدأ الفيلم بعرض مشاهد المدينة الصغيرة التي يعيش فيها السنوسي وعائلته، حيث تستمتع العائلة بإفطار مبكر، يلي ذلك لقطة لسنوسي وهو يصطحب ابنه إلى المدرسة بواسطة قارب صغير يعبر نهر النيل، لكن بمجرد وصولهما إلى القاهرة، يبدأ سنوسي وصابرين رحلة مرعبة. يكافحان وسط الشوارع المكتظة وسيارات الأجرة وإشارات المرور الطويلة، كما يتعرضان للسرقة أثناء ارتيادهما حافلة عامة. وفي النهاية يقرر السنوسي التخلي عن مشروع إنتاج الخبز والعودة لقريته وهو يردد «علينا أن نبتعد عن المدينة إلى مكان بعيد كل البعد عنها».
وتلاحظ خيري أنه على مدار تاريخ صناعة السينما المصرية غالبا ما جرى إضفاء طابع رومانسي على المدينة بوصفها مركز الثقافة ومنارة الحداثة، مع ذلك نراها في الفيلمين تظهر كمدينة شديدة التلوث. وهنا يجري تحويل المدينة إلى شيء سلبي، مليء بالضجة والبلطجية، وهذا ما نراه في الفيلم الأول عندما يعتمد المخرج أغنية احمد عدوية «زحمة يا دنيا زحمة» بينما لا نسمع في الريف سوى تغريدات الطيور الجميلة، وبذلك يجري خلق ثناية (مشهد مدينة متوحشة أمام أجواء رومانسية ريفية). وترى خيري أنها رؤية غير دقيقة، إذ لا يزال الريف المصري يفتقر إلى البنية التحتية الأساسية، مثل المياه النظيفة، ولذلك فإنّ احتمالات وجود مثل هذا المزاج الحياتي السهل في الريف لا يمكن أن تكون دقيقة. كما تخلق هذه الصورة السينمائية مخيالا عن المدينة، كأننا في سيرك ولا بد من الهروب منه، أو بالأحرى من الكابوس الحضري الذي آلت إليه الحداثة أو أن نعاني من الانهيار العقلي إن بقينا فيها.
المدينة بعيون سائق تاكسي
في أحد فصول الكتاب الممتع والشيق، تحاول المهندسة المعمارية مريم مرعي قراءة صورة المدينة من خلف عجلة القيادة، ومحاولة فهم كيف يرى السائق المدينة وطريقة الحياة فيها من منظوره الخاص. وهناك العديد من الأفلام التي حاولت تناول هذا الجانب مثل فيلم «عفاريت الإسفلت 1996» (يمثله محمود حميدة) الذي يروي قصة سيد الذي ورث هذه الوظيفة عن والده وجده. ويعيش في حي فقير في شقة واحدة مع والديه، ويقود الميكروباص بالتناوب مع والده (جميل راتب). وفي الفيلم يقيم السائق الابن علاقة غرامية مع زوجة حلاق الحي بينما تقيم شقيقته، انشراح، علاقة غرامية مع رينجو. ويظهر السائقون كالعفاريت وهم يقودون سياراتهم في شوارع لا تبدو مزدحمة (طريق المعادي حلوان) مما يعطي انطباعا وكأن السائقون يسيرون عبر عالم خيالي غير واقعي. وفي محطات الميكروباص، نشهد ازدحاما شديدا بالعديد من الأنشطة، فهناك المقهى وهناك المعاكسات اللفظية والموسيقى المختلفة التي تستخدم مفردات مبتذلة. وترى الباحثة أنّ الفيلم يظهر القاهرة، وكأنها تعيش فترة الهروب من الحداثة إلى حالة ما بعد الحداثة. وترتبط حالة ما بعد الحداثة كما يراها ديفيد هارفي بالتراكم المرن وتنوع المصادر والنواتج وعدم مركزية اتخاذ القرار. وفي حال سائقي عفاريت الإسفلت، يشكل مجتمع سائقي الميكروباص قطاعا جديدا من التمويل، يعتمد على التمويل الذاتي وتراكم المكسب، وهذا ما يمنحهم القوة، وقد لا يكونون أغنياء لكنهم يسيطرون على قطاع كامل من اقتصاد النقل. ويشكل التنوع جانبا آخر من جوانب ما بعد الحداثة، فلا يوجد مركز أو تجمع للسلطة. ففي تسعينيات القرن العشرين أصبحت هناك مصادر متعددة في قطاع النقل: الاتوبيسات، وسائقو الميكروباص، وسيارات الأجرة. وبالتالي تظهر المدينة أو القاهرة في هذه الافلام غير مسيطر عليها من قبل السلطة، أو أنّ هناك قطاعات يجري فيها التفاوض مع الدولة على التحكم وإدارة الفضاء العام.
وفي الكتاب أيضا دراسات لا تقل أهمية عما عرض، مثل دراسة صورة المقهى في السينما المصرية، خالد أدهم، وفصل حول مدينة الألف مئذنة والمليون طبق صناعي، محمد عماد فتيحة، الذي يدور حول دور الإسلام في حياة القاهريين كما يظهر في السينما، وعناوين أخرى تستحق كل الاهتمام والثناء.
كاتب سوري
عظيم ?