يصعب على قارئ كتاب «القاهرة 1921: قصة الأيام العشرة التي شكلت الشرق الأوسط» للكندي سي. براد فوتBrad Faught C.، ألا يصاب بصدمة تؤهله لتقبل أن ما يعتبر الآن أسس الواقع السياسي للعالم العربي (التاريخ اللاحق للحرب العالمية الأولى)، وبديهيات استقرّت في وصف هذا الواقع (بدءا من أسماء البلدان، مثل العراق وسوريا ولبنان، وانتهاء باصطلاحات مثل «الشرق الأوسط»)، كان يمكن أن تتغيّر تماما، وأن الاحتمالات كانت مفتوحة بأكثر من اتجاه، لولا الأدوار الشخصية لأهم من حضروا «مؤتمر القاهرة» عام 1921، بُعيد استلام ونستون تشرشل وزارة المستعمرات في الحكومة البريطانية.
يبيّن الكتاب دور الانتصارات العسكرية التي حققها الجنرال اللنبي، واندحار الإمبراطورية العثمانية الناتج عن ذلك، واشتباك ذلك بالمكائد السياسية والدبلوماسية، التي يكون لها الأثر الحاسم في مآلات الأحداث، كما يبين تأثير قناعات وأمزجة شخصيات بعينها مثل لورنس (المؤيد الكبير لنشوء دولة عربية بقيادة الهاشميين) ومس غيرترود بيل (المسؤولة البريطانية المؤثرة في تاريخ العراق) والأمير فيصل بن الحسين، من جهة، ولويد جورج (رئيس وزراء بريطانيا) وحاييم وايزمان (رئيس المنظمة الصهيونية في بريطانيا)، وهربرت صموئيل (المفوض السامي البريطاني في فلسطين والصهيوني المتزمت)، من جهة أخرى.
الكتاب الذي حظي بترجمة متميزة من أحمد العبدة، وصدر عن مدارات للأبحاث والنشر، في القاهرة، يفاجئنا بمعلومات ذات مغزى كبير، وأطروحته الرئيسية التي يحاجج بقوة لأجلها، أن هذا المؤتمر لم يكن حدثا روتينيا أو «مسرحيا» كما وصفه بعض المؤرخين، وأن أثره الكبير في تأسيس «الشرق الأوسط» الحديث لم يتم الانتباه إليها. لقد أثبت الزمن، على أي حال، صحّة هذه الأطروحة لأن قرارات المؤتمر تم تنفيذها على الأرض وفعلت فعلها في تشكيل المشرق العربي، إلى أن قامت الوقائع التاريخية بالفعل بها على ما رأينا في سقوط الملكية في العراق، وتحوّل إسرائيل إلى الدولة التي نعرفها اليوم.
يقدّم الكتاب، أيضا، إمكانيات لتحليلات معمقة أكثر لأمور يذكرها المؤلف من دون أن يلحظ، وهو المؤرخ، دلالاتها التاريخية والسياسية، خصوصا في علاقة السياسة بالدين والبنى التاريخية للأيديولوجيا، وعن طريقها إلى علاقة الصهيونية المسيحية في بريطانيا والغرب بنشوء إسرائيل. لم يكن تشرشل، الفاعل الرئيسي في المؤتمر، متدينا، وكانت أهم المبادئ التي اشتغل عليها في وزارته والمؤتمر المذكور هو خفض نفقات الإمبراطورية، وحسب قوله فإن «كل ما يحدث في الشرق الأوسط ثانوي إزاء تخفيض النفقات»، وهو أحد أسباب تحمسه لتنامي استقلال المستعمرات. ليس خطاب تشرشل في مقبرة الجنود البريطانيين في القدس، الذي قال فيه، إن المحاربين القدامى يرقدون وسط «غبار الخلفاء والصليبيين والمكابيين» (المكابيون جماعة من المتمردين اليهود الذين يستشهد بنيامين نتنياهو بذكرهم كثيرا) هو تعبير بلاغي فحسب، ولم تكن مواجهاته لآراء الرافضين للدولة الصهيونية، مثل الجنرال أللنبي ولورنس ومس بيل، أو للفلسطينيين الذين طالبوا بإلغاء وعد بلفور ووقف الهجرة اليهودية، تعبيرا عن صهيونيته السياسية فحسب، بل كانت أيضا تعبيرا عن المنظومة الأيديولوجية ـ السياسية – الدينية التي تربّى عليها أفراد «المؤسسة» البريطانية.
يختار الكتاب صورة ذات مغزى تاريخي لتشرشل وزوجته ولورنس ومس بيل معتلين ظهور الجمال أمام أبي الهول (تعلّق زوجته عند سقوطه من فوق الجمل: «هكذا يسقط الجبابرة» (في استشهاد من سفر صموئيل في الكتاب المقدس)، وهو يتابع، على مدار الكتاب، تقديم معلومات رمزية كاشفة تاريخيا وسياسيا، مثل طلب رئيس الوزراء لويد جورج من الجنرال أللنبي «طلبا عاطفيا» (على حد قول المؤلف) «التمس منه الظفر بالقدس هدية للأمة البريطانية في عيد الميلاد»، ومثل أن انتصار أللنبي الأخير على العثمانيين كان في بلدة مجدو (موقع نهاية العالم في الكتاب المقدس).
هناك أيضا لقطات رمزية كاشفة يمكن الشغل عليها من جوانب أخرى، مثل حكاية الرصاصة الأولى التي أطلقها الشريف الحسين من نافذة قصره في مكة فجر العاشر من شهر آذار/مارس 1916، فدوّت الطلقة في سكون الصباح الباكر في أقدس مدن الإسلام، مشعلة حربا صحراوية بين العرب والعثمانيين، استمرت أكثر من عامين، ومثل الاحتفال البريطاني الصاخب الذي جرى في دمشق بتحرر البلاد من أربعة قرون من الحكم العثماني، إثر دخول الفيلق الصحراوي الأسترالي المدينة العاجة بالفوضى والنيران، ثم انسحابه ليدخل الجيش العربي الشمالي لفيصل، وليحتفل سكان دمشق، مركز الدعوة للقومية العربية، بانتصار العرب على الأتراك.
من المعلومات المثيرة والطريفة، مثلا، أن شخصا لقّب المشاركين في مؤتمر القاهرة، وعددهم 39، بـ»الأربعين حرامي»، وأن المؤتمر ناقش إمكانية تولي ابن سعود عرش العراق، (لكن الشخصيتين العراقيتين البارزتين، جعفر العسكري وساسون حسقيل، المشاركين في المؤتمر اعتبراه «تهديدا وجوديا رئيسيا لمستقبل البلاد»)، وأن نعلم أن المؤتمر ناقش أيضا ترشيح الآغا خان زعيم الشيعة الإسماعيلية، وكذلك خزعل بن جابر، الشيخ الفارسي، وشهزاد محمد برهان الدين (أمير تركي)، وطالب النقيب وزير الداخلية العراقي حينها، والشيخ عبد الرحمن الكيلاني «النقيب»، الزعيم الديني العراقي، وأن نعلم أن الأخير، وهو هاشمي وسنّي، عارض ترشيح فيصل لأنه هاشمي وسنّي مثله. مفيد للتحليل أيضا ملاحظة الأهمية السياسية والأيديولوجية لمدينة القدس التي استكمل فيها مؤتمر القاهرة جلساته لتحديد مصير فلسطين، عبر تقسيمها إلى شرق الأردن وإقرار تأسيس «وطن قومي لليهود» فيها. يرد، عديد المرات، حديث غزة أيضا، ومن ذلك كون انتصار أللنبي فيها كان تمهيدا للسيطرة على القدس وفلسطين وسوريا. يمر تشرشل وأللنبي ولورنس في قطار منتصف الليل من القاهرة على غزة فتستقبلهم تحيات الأهالي، ولكن لورنس، الذي يتقن العربية، سمع أيضا وسط الضجيج هتافات تقول «يسقط اليهود» فكتم ذلك عن أصحابه.
مفيد أيضا الانتباه الى المركزية التي توليها شخصيات الكتاب لسوريا، بدءا من رحلة لورنس الأولى إليها ورحلته الطويلة خلال صيف عام 1909 حيث جعل الإعجاب بأهل الشرق الأوسط ومجتمعهم وثقافتهم يستحيل شغفا يتملكه سائر حياته، كما تظهر ريادتها في أيار /مايو عام 1915 مع طرح ممثلي جماعتين قوميتين سريتين رئيستين، هما «الفتاة» و»العهد» على الأمير فيصل وثيقة خلال زيارته لدمشق، وهي الوثيقة التي تعرف بـ»ميثاق دمشق»، كما تظهر مركزيتها بالنسبة لفيصل والحركة القومية العربية، في انعقاد المؤتمر السوري عام 1920، الذي سيعد أول برلمان سوري، يصادق على تأسيس المملكة العربية السورية، ثم في الحرب عليها مع الفرنسيين التي أدت لمعركة ميسلون، وإخراج فيصل قسرا من دمشق، ثم سنرى تداعيات هذا مع الاشتراطات التي وضعتها بريطانيا على عبد الله، شقيق فيصل، الذي رابط في معان، واشتبك عدة مرات مع الفرنسيين، بوقف هذه الأعمال الحربية لضمان حكمه لشرق الأردن.
هناك معلومات مهمة أيضا حول المصير الذي آلت إليه كردستان، والأشخاص الذين عارضوا استقلالها، الذي كان تشرشل نفسه متحمسا له.
في رسالة بتاريخ 14 تشرين الأول/أكتوبر 1918، في طريقه إلى لندن من دمشق، يصف لورنس رفاقه وزملاءه بـ»المجموعة العسكرية الغريبة» خالصا إلى القول: «أتوقع أننا قد غيرنا التاريخ في الشرق الأدنى، وأتساءل: كيف ستسمح القوى الكبرى للعرب بالتقدم»؟
كاتب من أسرة «القدس العربي»