ادراك المدن والاوطان تحدّده زاوية النظر التي نطل منها عليها. فأنت تستطيع التطلع من خلال زاوية الطقس مثلا. أو من خلال المناظر الطبيعية، البناء والعمارة، أو من خلال التظيم المدني أو من خلال وجه الناس وتصرفاتهم.
الزوايا متعددة طبعاً بتعدد الوجوه التي يمكن الكائنات الحية أن تحملها. ينتقي الناس ويحفظون في ذاكرتهم ما يريدون وما يشتهون من وجوه للمدينة مادية أو معنوية حسب عين الناظر، بصره أو بصيرته.
فالطبيب مثلاً قد يكون، بالإضافة الى هويته المهنية كطبيب، أباً أو رجلاً أو أمرأة أو أخاً أو نقابياً أو سياسياً الى ما هنالك. أحد هذه الوجوه لا يحدد بداهة وجود الوجوه الأخرى. فأن تكون طبيباً لا يعني بالضرورة أن تكون رجلاً مثلاً أو سياسياً أو نقابياً أو ما شئت. والعكس صحيح أيضا بالطبع. التعقد يأتي من كون الطبيب على علاقة بمجموعة من الناس في مجتمعه أيضاً.
كثير من زوار لبنان يرون فيه البلد الوديع الجميل معتدل الحرارة في الصيف والبرودة في الشتاء. بلد السهر والغناء الفرح فيه وحده غير معتدل. شعبه طيب وفرح، منفتح ومتدبر. والقليل منهم، الزوّار، يرى فيه الفوضى في البناء وفي السلوك وفي السير وفي العيش. كما يلحظون ميل اللبناني الى العنف والتقوقع في جماعة قرابية لا تقبل الآخر لا بل تشيطنه. أن ترى الى داخل البلاد هو أن تقرأ دولتها التي لا تتعدى كونها الهيئة الناظمة لجمع الناس ومصادر واساليب عيشها ولعلاقاتها ببعضها في حيز جغرافي محدد معروف ومعترف به. وهنا لا بد إذن من الإطلاع على إجتماع الناس لفهم طبيعة دولتهم. .
لكن للمدن والاوطان حياة داخلية معقدة، أيضاً، تعجز العين المجردة عن التقاط أسرارها وطرق اشتغالها.لكن كيف يمكنك فهم ما لا يظهر للعين بدون اللجوء الى وسائل البصيرة، إلى العلوم والأفكار وما تراكم من معرفة تاريخية سابقة منثورة هنا وهناك وفي جميع الحقول. وبما أن المجتمع معقد كما ذكرنا، وبما ان العلوم والنظريات والمعرفة السابقة متعددة تعدد فلسفات النظر الى الكون، فإن التصورات التي تبرز الى العلن عن الدولة متعددة هي الأخرى وتعكس غالباً رؤى عميقة لفئات وشرائح ‘تريد’ أن ترى الواقع المناسب لمصالحها.
هذا اللبنان الجميل الوديع بتناقضاته المحيّرة تعيش فيه المرارة بالمفرّق والحلاوة بالجملة. ومع ذلك يعيش اللبنانيون اليوم قلقاً وجودياً على مستقبلهم الغامض. فالتطورات الجارية حولهم وألسنة اللهب المنبعثة منها بدأت تقترب شيئاً فشيئاً. فالحدود التي قيل أنها ‘دولية’ و’نهائية’ وتفصل الداخل عن الخارج بدت اليوم كما لو كانت أي شيء الا حدوداً فاصلة.
فلا الأطراف الدولية التي اخترعت هذه الحدود أمس تحترمها اليوم، بدليل ما تنقله صحافتها عن ضباط واجهزة تابعين لها يساعدون في تمرير المسلحين من كل الجنسيات والسلاح والعتاد الحربي وغير الحربي عبر الحدود، الى سوريا. ولا أبناء البلد ‘النهائي ذي الوجه العربي’ أو العربي. بحسب المتكلم، ترددوا في إجتيازها لكي يدعموا ‘إخوانهم’ المهددين على الضفة الأخرى. إخوانهم ويا للغرابة طلعوا خارج الحدود المستعارة لا داخلها.
لا الحدود حدود ولا الدولة دولة ناجزة ولا الدستور المكتوب يحكم اللعبة السياسية ولا الشعب منسجم النسيج ولا العدو واحد ولا الصديق ولا الأخ ولا الرفيق. كيف تكون الدولة دولة وشعبها ينقسم لا على برنامج حكم ولا على التنمية ولا على توزيع الدخل وأشكاله ونسبه بل ينقسم بالجملة على جماعات ما تزال تعتمد على مفهوم ‘الجكارة’. أي على اتخاذ الموقف المضاد آليا لموقف القرابة الأخرى. فإذا فضّلت إحداهن فلسطين كرهتها الثانية وبدون نقاش. وإذا طلبت الأولى الكهرباء راحت الثانية الى القناديل القديمة بدون أي تردد أو تفكير.
كنا ظننا لفترة أن لبنان مجرد استثناء بتركيبته الإجتماعية الفريدة، والتي نالت من الكتاب و الباحثين ما يكفي من التقريظ والنقد واللعنات والتوصيفات السوداء والبكاء والرثاء والنعي، لكن الصراعات المفتوحة اليوم في طول الوطن العربي وعرضه لا تشي بغير التقارب والتماثل حد التطابق بين النماذج العربية في هذا المضمار. سيطرة نموذج الجماعات والعصبيات على كامل مساحة الإجتماع العربي. لا فضل لعربي على آخر في هذا المجال.
تلبننت العرب أو لنقل أن وعينا وادراكنا للعرب قد ‘تلبنن’ أي أن النموذج اللبناني قد صار هو هو النموذج العربي من محيطه الى خليجه. فهل ما كنا نراه في السابق وهم وإسقاطات فكرية لصور وترسيمات فكرية منقولة أم أن الوضع الإجتماعي العربي ذاته قد أصيب حديثاً بفيروس المرض اللبناني وهو لم يكن إلا ما كنا نراه نحن؟
صارت العرب كلها مصابة بداء اسمه لبنان وكنا نتوجه الى العرب لاستجداء الدواء الشافي لدولتنا الطائفية ولصراعات أطرافها وعصبياتها فإلى من سنتوجه بعد اليوم غداة وصول الإصابة الى الطبيب المداوي؟ قد يقول قائل أن الحقيقة كما نقدمها مقلوبة تماماً إذ أن لبنان كان مصاباً بداء القرابة الاجتماعية العربية وليس هو من نقلها إليهم. كل ما في الأمر أن هذا اللبنان بموقعه كواجهة بحرية لعمق عربي تحلى بنظام فرضه الخارج تحاصص فيه أهل الجماعات، الفساطيط، الدولة شقفة شقفة. لكل فسطاط نصيب يماثل قوته المحلية والإقليمية أيضاً.
يقول القائل ان هذا اللبنان لم يكن إلا مرآة تعكس الحقيقة الإجتماعية العربية العارية بدون المساحيق. فهل يمكن دولة العرب أن تكون غير ترجمة حرفية لهكذا عمران بشري. رحم الله ابن خلدون حاول ان يبين لنا ما نحن. حاول نعم لكننا من انصار مدرسة تعتقد أن ‘المسجد القريب لا يشفي’.