القدس والاسترداد «التنويري» للجامعة الإسلامية

حجم الخط
0

ثمة بعدٌ إسلاميّ شامل لقضية القدس. لا وجاهة للمكابرة على ذلك. فالسؤال الصحيح لا يتّصل بما إذا كنّا سنقبل بهذا البعد، أو ننحيه جانباً. بل يتصل بكيفية إدراك وتأطير هذا البعد، وأفضل الممكن بالنسبة إلى تكامله وتفاعله مع الأساس الوطني التحرري للقضية الفلسطينية، ومع وجوب التصالح التام مع القيمة الدينية العليا للمدينة في الديانات الإبراهيمية الثلاث.
ومثلما أنّ الجنوح الى اختزال قضية فلسطين في مسألة القدس، ومن ثم في تأمين الصلاة في الأقصى وحده، هو تفريط بالغ بالقضية الوطنية التحررية، فإنّ المكابرة، من موقع «إنسانوي كوني» بحت، أو من موقع علمانوي محض، على البعد الإسلامي،»كي لا نجعلها حرب حضارات» ينمّ عن عدم القدرة على فهم أهمية «المشاعر التضامنية بين المسلمين» في التاريخ الحديث، أكثر من أهميتها في مراحل ما قبل الحداثة.
وقد يرجع ذلك إلى شيوع اعتقاد خاطئ بأنّ «البانيسلاميزم» أو فكرة «الجامعة الإسلامية» أو التضامن بين سائر مسلمي العالم حول قضايا مشتركة، أو نصرة لقضايا بعضهم البعض، أمور متوقفة على الحركات المنتسبة إلى الإسلام السياسي.
في حين أنّ الاسترداد «التنويريّ» لفكرة «الجامعة الإسلامية» وتبيان قصور هياكل فكر الإسلام السياسيّ نفسها عن النهوض بها، وإدراك شروطها، والإستفادة النافعة منها، هو من أساسيات بلورة قوى ديمقراطية فعلية داخل مجتمعات العالمين العربي والإسلامي وليس العكس.
علامَ ترك «الجامعة الإسلاميّة» للإسلاميين وحدهم؟ بدلاً من ربط المشاعر والحيويات المؤطرة تحت هذا المسمى، بما هو وطني تحرري من جهة، وبما هو اعتبار كوني إنسانوي من جهة أخرى؟
صحيح في المقابل، ان قضية القدس شهدت منذ مؤتمر القمة الإسلامي الأول في الرباط في سبتمبر 1969 طابعا «إسلامياً جامعاً» بادر اليه الملك فيصل بن عبد العزيز، وحضره شاه إيران، في لحظة أفول حركة القومية العربية التقدمية، وكبوة العالمثالثية والتضامنية الأفرو – آسيوية المعادية للاستعمار. وقد أتت هذه القمة في إثر تنفيذ الأسترالي دنيس مايكل روهان جريمة إحراق المسجد الأقصى.
يومها كانت «الجامعة الإسلامية» تعبيراً عن تراجع التقدميين على صعيد العالمين العربي والإسلامي، لصالح المحافظين. وفيصل، كما يوصّفه الباحث التركي جميل آيدين، كان «خليفة الحرب الباردة» فهو أعاد ابتكار التضامنية الإسلامية التي سعى اليها السلطان عبد الحميد الثاني أواخر القرن التاسع عشر، انما في عصر الدول الوطنية لا الإمبراطوريات، وعلى أساس أولوية مكافحة الشيوعية والأفكار التقدمية.
سبقت «خلافة الحرب الباردة» هذه الثورة الإيرانية الى أسلمة الخطاب، واعادة أسلمة المعاش، وأسلمة النظرة الى العلاقات الدولية، بخلاف ما يجري العمل على الترويج له منذ سنوات، كما لو أنّ «إعادة الأسلمة» الشاملة هذه لم تنطلق الا تحت تأثير الثورة الإيرانية، أو بداعي مواجهة محاولات تصدير الثورة الإيرانية.
وبدوره، وبعد انتصاره، استحدث الخميني «يوم القدس العالمي» كجزء من تصور جديد لـ«الأممية الإسلامية» لا ينمّ عن مقصد تأليف القلوب مع التقدّميين، لكن تعطى فيه الأولوية لمحاربة الإمبريالية الغربية، وبالتحديد الأمريكية، تحت مسمّى «قوى الإستكبار العالمي» والعودة بالتالي الى المقلب المعادي للإستعمار من الجامعة الإسلامية، انما على حساب المكون التنويري، الذي ينهل من المصادر الغربية، والذي كان متوفّراً عند دعاة التضامنية بين المسلمين ضد الاستعمار، انما على أسس ترتجي مزيداً من الرحابة لحجية العقل والوعي النقدي والاعتبارات الدنيوية.

الجامعة الإسلامية، أي التضامنية بين المسلمين وبين المنتمين لمجتمعات ذات أكثرية إسلامية من غير المسلمين، لا تقتصر إذا على نموذج أحادي، ولم تحصر بالإسلاميين إلا في وقت متأخر

حين صدر كتاب جميل آيدين» فكرة العالم الإسلامي» 2017 جرى الاحتفاء بعنصر فيه على حساب آخر. جرى تقريظ الكتاب لأنه يفكك الوحدة المتخيلة لمقولة «العالم الإسلامي» ويظهر أنها مقولة مركبة في العصر الحديث، ومبنية على وهم الترابط الجيوبوليتيكي بين البلدان الإسلامية، وأنه الوهم نفسه الذي قاد باراك أوباما لمخاطبة العالم الإسلامي ككل، في خطابه في جامعة القاهرة عام 2009. بيد أنّ قيمة كتاب جميل آيدين لا تختزل في هذا العنصر، ولو سعى هو إلى تغليبه في مقدمته. صحيح انه أظهر شطط الاعتقاد بأن نسقاً جامعاً كان يشمل كل المسلمين الى ان فرقتهم الهيمنة الأوروبية، لكنه أظهر في المقابل أن صعود هذه الهيمنة الأوروبية وما رافقها من نزوع للنظر الى المسلمين على اختلاف مجتمعاتهم ومذاهبهم وممالكهم كما لو كانوا عنصراً واحداً، أو عرقاً بيولوجياً واحداً ليس الدين سوى باب الدخول اليه، هو الذي شجّع المسلمين في المقابل الى تطوير أشكال مختلفة من التضامنية العابرة للبلدان والدول فيما بينهم، والتي تدخل ضمن مسمّى «البانسيلاميزم» أو «الجامعة الإسلامية».
وبالمطلق، فكرة الجامعة الإسلامية كانت تتناقض مع اهتمامات الاحيائيين الاسلامين. بالنسبة إلى الاحيائيين الأولوية هي للعودة إلى إسلام أصلي، صحيح، في حين أن أولوية «الجامعيين» هي التضامنية بين المسلمين بصرف النظر عن اختلاف نظرة كل جماعة منهم إلى الإسلام نفسه.
وقد يكون آيدين قد قلّل في كتابه من أهمية جمال الدين الأفغاني و«العروة الوثقى» كنموذج على خطاب جامعي إسلامي، متقاطع مع مشغلة الإصلاح الديني، وبنزعة معادية للإستعمار بالمطلق، بل وبنزعة تداخلية بين الدعوة إلى التضامن بين كل المسلمين، وبين الدعوة إلى التضامن بين كل الشرقيين، أو الأسيويين، مسلمين وغير مسلمين.
الا أن آيدين أصاب تماماً لجهة كون النموذج المهيمن على خطاب الجامعة الإسلامية نهاية القرن التاسع عشر ليس نموذج السيد جمال الدين، بل نموذج السلطان عبد الحميد الثاني، ومعظم قادة ومفكري المسلمين في القرن التاسع عشر ومطالع العشرين أيضاً.
فعبد الحميد كان يرتجي من الجامعة الإسلامية تحقيق الربط بين حاجتين: حاجته كلما كانت تنكمش رقعة السلطنة، لتوسيع رقعة خلافته المعنوية، وحاجة بريطانيا التي كان نصف مسلمي العالم رعايا في امبراطوريتها الكوكبية، الى التوافق مع السلطان العثماني، والدفاع عنه بوجه الروس، كي تضمن ولاء رعاياها من المسلمين. وما يبرزه آيدين ام أغلب النخب المسلمة في الامبراطوريات الاوروبية الأكبر، البريطانية والهولندية والفرنسية والروسية، كانت تطلع الى هذا من خلال تمسكها بالجامعة الإسلامية، أي أن يمدها هذا الاحساس بقوة المسلمين الحضارية والعددية الى انتزاع حقوقهم وإنصافهم ضمن الإمبراطوريات التي يرتبطون بها.
يميل آيدين، الى ربط تحول الجامعة الإسلامية من حركية تطالب بالإنصاف ضمن الامبراطوريات الأوروبية القائمة، الى حركية معادية للإستعمار، بالنقلة من المرحلة العثمانية الى ما بعدها. بخلاف عبد الحميد، انتقلت جماعة الاتحاد والترقي الى ضرب آخر من الجامعة الإسلامية. متحالف مع امبراطورية، المانيا، ضد الإمبراطوريات الأكثر استعمارية لديار المسلمين، بريطانيا وفرنسا وروسيا. أما مصطفى كمال فعاد، على ما يرى آيدين، الى نموذج عبد الحميد ايام حرب الاستقلال التركي التي أطلقها في مواجهة معاهدة سيفر الجائرة. فمن جهة، دعا كمال للتضامنية الاسلامية، طالبا مده بالمال وبالمتطوعين من مسلمي الهند. ومن جهة ثانية، أظهر عدم النية في محاربة الامبريالية، وكان طلبه من الانكليز أنه لا مصلحة لهم في تغليب اليونانيين عليه. وحتى تركيا، ما بعد إلغاء الخلافة، يعتبرها آيدين تجربة مجسدة لفكرة الجامعة الإسلامية بامتياز. فمن يوم إلغاء الخلافة، وتجربة كمال في إقامة الدولة الوطنية تحولت إلى نموذج تقاس على أساسه النماذج في طول العالم الإسلامي وعرضه.
الجامعة الإسلامية، أي التضامنية بين المسلمين وبين المنتمين لمجتمعات ذات أكثرية إسلامية من غير المسلمين، لا تقتصر إذا على نموذج أحادي، ولم تحصر بالإسلاميين إلا في وقت متأخر. هل يمكن تصور جامعة إسلامية للديمقراطيين في المجتمعات المصطبغة باللون الإسلامي بشكل أو بآخر؟ بالمطلق نعم. وهذا يفيد سائر القضايا التحررية لهذه المجتمعات. في الوقت عينه، هذا لا يمكن ان يحدث بجرة قلم.

كاتب لبناني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية