الكلام ذو مسار خطي في حيز الإدراك السمعي، بمعنى أنه يسير في اتجاه لا رجعة فيه، يسير بشكل متسلسل تأخذ الكلم فيه برقاب بعض حتى يستقر في النفس، أن المعنى استبان وأن الصمت عنه ممكن قبل العودة من جديد إلى استئناف مقطع من الكلام جديد.
والكتابة ذات مسار خطي في حيز الإدراك البصري، لأنها تذهب باتجاه لا رجوع فيه؛ فكأنما الكتابة جعلت لا لتصوير اللفظ بالخط، أي لإخراجه من حيز المدرك سماعا إلى المدرك بصرا، بل جعلت أيضا لمسايرة سمة الخطية في الكلام، التي عدها علماء العلامات سمة مميزة للعلامات المنطوقة دون غيرها من العلامات، إن الكتابة ذات مسار خطي: هذه الحقيقة لا ندركها إلا عند القراءة.
القراءة بمعناها الأول البسيط هي فك شيفرة الخط بالنطق جهرا أو من غير نطق. الأصل في القراءة أن تكون جهرة لا صمتا، ولكن سلطة الفضاء أو المحيط القاهرة هي التي تجعل القراءة صامتة. هناك طباق بين القراءة والصمت، يجعل من لفظ القراءة الصامتة تسمية سيريالية. فالأصل في القراءة أن يكون فعلا مصوتا هكذا تقتضي أصول تعليم هذه الكفاءة في المدارس، لأن الكتابة جعلت لتحنط المنطوق في أشكال من حروف وكلمات، وجعلت القراءة لتعيد المنطوق إلى الحياة، فكأن القراءة فعل بعث للكلام بعد إذ حنطته الكتابة. القراءة حلم فرعوني تام: كان الفراعنة يحلمون بحياة تبعثهم بعد التحنيط في عالم الخلود، تبعثهم بأجسامهم تلك الكاملة، وليس لدينا ما يثبت أنهم حققوا هذا الحلم ما بعد التحنيط.
القراءة فيها هذه الحياة بعد التحنيط بعد الكتابة، لأنها تبعث الكلام، سواء أكانت كتابته حسنة التحنيط، أو حتى وهي رميم. ترك القدامى خطوطهم بكتابات عفا عن قوانينها الزمان، ولكن الأحياء بحثوا عن قواعدها، وفككوا شيفرتها ونطقوا بها وفهموها، وكل ذلك بالقراءة، لكن بعث الكلام القديم بأصوات جديدة، يمكن أن يكون إحياء ناقصا قد يكون للتبسيط، كأن يبعث الفرعون بعد الحياة بصوت ليس صوته، أو بعرج لم يكن في ساقه قبل التحنيط، فصار فيها بعده هذا شيء لا يُتَفطن إليه رغم أهميته.
القراءة بالمعنى العرفاني هي «مجموعة من الأنشطة الحركية البصرية والعرفانية، التي تقود انطلاقا من استخراج معلومات خطية إلى فهم ملفوظ». (معجم العلوم العرفانية، تيباريان Guy Tiberghien). الحركية البصرية المقصودة هي حركة العين المتنقلة طيلة قراءة مكتوب على صفحة من الورق، أو غيرها من أسناد الكتابة، وهذه الحركة التي تسمى أيضا الحركات الارتجاعية، تكون سريعة وتقطع بوقفات تكون أمامية متابعة لنظام الكتابة، ويمكن أن تكون تراجعية إن أراد المرء الرجوع للتثبت من شيء سابق. هذا إن كان ليس شأنا عاما في عملية القراءة، أي القراءة ذات الاتجاهين، إلا أنها موجودة، خصوصا عند إرادة القارئ إعادة بناء الفهم من جديد.
هذا الفيض الاستعاري يرفع عن المحبوب إنسانيته وينقله من البشر إلى القمر. والغياب أصلا يصبح من نوع فقد الدنيا نور قمرها، وهذا يقوي معنى الغياب ولكنه يضعف معنى حجم الغياب.
لتوضيح القراءة الارتدادية، أو القراءة ذات الاتجاهين سنأخذ مقطعا معروفا لشاعر غير معروف هو بهاء الدين زهير يقول طالعه (حبيبي على الدنيا إذا غبت وحشة .. فيا قمري قل لي متى أنت طالع؟). حين نقرأ صدر البيت منقطعا عن العجز سنفهم أن الشاعر يصف شعورا عاديا: غياب الحبيب وما أنتجه من وحشة لا على الفرد، بل على الدنيا بأسرها. هذا معنى مألوف في الآداب العالمية (ينقصك فرد، ويصبح العالم قفرا).
يبدو هذا المعنى مألوفا في الغزل ومنسجما مع غرض القصيدة، ويبدو الفهم تاما إلى هذا الحد، القراءة الخطية تنسجم مع روح المعنى البسيط والواضح، وعندئذ تغيب الملهيات وتكون القراءة الخطية بذلك أسرع، لكن حين ننتقل إلى عجز البيت، فإن القراءة ستبني المعنى اللاحق على المعنى السابق، اعتمادا على ما تخزن في الذاكرة ذات المدى القصير، لكن ما خزن يبدو وكأنه لا ينسجم إلا في السياق الشعري المخصوص مع اللاحق، لذلك يحدث ضرب من المرادفة الإحالية بين العناصر المذكورة في الصدر والعناصر المذكورة في العجز: فـ(حبيبي) هناك ترادف (قمري) هنا و(غبت) هناك تناقض (طالع) هنا. هذه المرادفة والمناقضة الضرورية هي التي تستوجب التوقف وقلب القراءة على أعقابها. فيقرأ العجز في ضوء الصدر من أجل بناء المعنى وإتمام المشهد. لكن عناصر إحالية ترادفية وأخرى تقابلية أو خلافية هي التي تجعلنا نرجع بالقراءة على أعقابها فيقرأ الصدر في ضوء العجز حتى يكتمل المشهد الاستعاري بعناصره المختلفة الحقيقية والمجازية. نحن نعود إلى الصدر وفي ذهننا العناصر الجديدة لنجعل البيت بأكمله استعاريا وليس العجز وحده. وهذا الفيض الاستعاري يرفع عن المحبوب إنسانيته وينقله من البشر إلى القمر. والغياب أصلا يصبح من نوع فقد الدنيا نور قمرها، وهذا يقوي معنى الغياب ولكنه يضعف معنى حجم الغياب. فغياب فرد إن كان يعني غياب الكون أثقل في التعبير عن معنى الغياب من غياب القمر ووقعه في الدنيا. القراءة جيئة وذهابا هي قراءة يراد بها إعادة تأسيس معنى سابق تأسس على أرضية حقيقية أولا فصار لزاما أن يعاد تأسيسه على أرضية مجازية استعارية.
البيت الثاني في القصيد يقول: (لقد فنيت روحي عليك صبابة .. فما أنت يا روحي العزيزة صانع؟) القراءة الخطية في اتجاه واحد تقرأ الصدر في معنى موت الحبيب عشقا وهذا معنى غزلي مألوف وتقرأ العجز في السياق نفسه، سياق ميت من العشق يريد أن يعرف ما سيفعله من مات لأجله بعد أن يكون قد مات. إلى حد الآن لا حاجة لأن ترتد القراءة وتعود على أعقابها؛ لكن ما يحتم هذه القراءة الارتدادية عبارة (يا روحي) التي تبدو كالصدى الخادع لكلمة (روحي) التي في الصدر. قلنا عن روحي الثانية إنها صدى لأنها تكرير لروحي في الصدر ولكنها صدى كاذب لأن العبارتين وإن تماثلتا صوتا وخطا، وتجانستا دلالة فإنهما اختلفتا مرجعا. فروحي الأولى هي الروح الحقيقية والثانية هي الحبيبة.. يطلب منا فهم النص في سياق من التوحد العشقي، أن نجعل الروحين روحا واحدة، وأن تكون الروح الثانية باعثة حياة في الروح الأولى الفانية؛ ولهذا سنعود بالقراءة على أعقابها لكي نحيي روحا فنيت وتركت صوتا كالهاتف بين الصدر والعجز يطلب من روحها أن تحييه وتبعثه من جديد. القراءة الأولى في اتجاه تقدمي قراءة نَعْي، والقراءة الثانية في اتجاه تراجعي قراءة بعث. لا تريد القراءة الفاهمة أن تكون محايدة لأنها إن مضت في اتجاه واحد كانت كالحياة: ذهبت ولا تعود. تريد القراءة ذات الاتجاهين أن تعود فترمم المعاني التي خلقتها القراءة الأولى وتحيي الأرواح التي خنقها العشق، تريد القراءة الراجعة أن تكون شيئا مثل البعث والولادة الثانية: ولادة روح أفناها العشق فظلت تنتظر من يحييها. لا معنى لكلمة (روحي) المبتذلة بدون قراءة في اتجاهين: تقتل وتحيي. الروح الشقيقة الروح العشيقة قد تلقاها فتقتلك، وليس لك من حل لكي تلقاها فتحييك إلا الصدفة والحظ: الصدفة أن تلقاها أول مرة والحظ أن تعود القراءة أدراجها في المرة الثانية.
٭ أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية
/القراءة بمعناها الأول البسيط هي فك شيفرة الخط بالنطق جهرا أو من غير نطق. الأصل في القراءة أن تكون جهرة لا صمتا، ولكن سلطة الفضاء أو المحيط القاهرة هي التي تجعل القراءة صامتة/… ليس هناك في الحقيقة شيء اسمه “فك شيفرة الخط من غير نطق” في معرض الكلام عن القراءة بأي معنى.. حتى سيرورة التفكير المحض ينظر إليها فلاسفة اللغة /وفلاسفة العقل أيضا/ بوصفها “سيرورة كلام غير مسموع” بالنسبة للأوائل أو “سيرورة كلام منطوق باطنيا” بالنسبة للأواخر، ناهيك عن “القراءة الصامتة” في هذا السياق.. !!
من خبرتي العملية على أرض الواقع، هناك فرق بين فلسفة/عقلية تجمع ما بين الإفراط والتفريط وبين فلسفة/عقلية عنوان (القراءة ذات الاتجاهين) والأهم هو لماذا؟!
أنا لاحظت الكثير من أهل علم اللسانيات أو الترجمة بين اللغات، والتي لا تستطيع تمييز، أنّ هناك ثلاثة أنواع للذكاء (للآلة أو الحيوان أو الإنسان)،
لم يعلم أن النظام الثنائي للغة الآلة (0/1)، في دولة الحداثة انتهت صلاحيته في عام 2014، مع طرح منتج Watson بواسطة شركة IBM، الأمريكية،
وانتهى مفهوم الاحتكار (لثقافة الأنا) بتوقيع عقد إنتاج الجيل القادم من الحواسيب (Quantum) ما بين شركة IBM وألمانيا، الذي وقعته (أنجيلا ميركل)، وعرض شركة هوا وي الصينية لبيع تقنية 5G، لمن يرغب في الشراء من أي دولة في العالم، كدليل عملي في التحوّل إلى ثقافة النحن كأسرة إنسانية (العولمة والإقتصاد الرقمي/الإليكتروني)،
والسبب هو لإلغاء حجج دلوعة أمه (دونالد ترامب) في إعلان الحرب التجارية،
لتحويل ما فقدته الدولة من الضرائب والرسوم بواسطة الجمارك على البضائع المستوردة، بعد عام 2019، لتغطية ما تحتاجه ميزانية أي دولة لتقديم خدماتها بجودة مقبولة، مقابل الضرائب والرسوم والجمارك التي تفرضها من خلال القوانين،
حتى لا يضطر الإنسان والأسرة والشركة المُنتجة للمُنتجات الإنسانية إلى الهجرة/اللجوء من وطنه، إلى دولة أخرى تفرض ضرائب ورسوم وجمارك أقل وتقدم خدمات أفضل،
فمفهوم الوطنية قد تغير في أجواء الأسرة الإنسانية، كما تنازل الفنان الفرنسي عن جنسيته الفرنسية، مقابل الجنسية التي أعطاه الرئيس الروسي (بوتين) في عهد الرئيس (ساركوزي) في فرنسا.??
??????