يعد كتاب تاريخ القراءة، الذي كتبه القارئ المشهور: آلبرتو مانغويل، وأصدرته دار الساقي مترجما، أحد أهم الكتب التي ينبغي لكل باحث عن السبب في متعة القراءة، وتفوقها على كثير من المتع الأخرى، حتى عهد قريب، الاطلاع عليه، ذلك أن الكتاب كان عبارة عن جهد كبير، قضى فيه الكاتب سنوات طويلة، وأنجزه ليمنحنا أولا شهادة معرفية عن القراءة، وثانيا ليمتعنا بقراءة الكتاب.
الكتاب يتعرض تقريبا لكل الحقب التاريخية، منذ أن عرف الناس كيف يقرأوون على نطاق ضيق، وحتى لحظة اكتشاف الطباعة منذ قرنين بواسطة نوتنبيرج، وبداية انتشار المعرفة على نطاق أوسع حين انزاح عبء النسخ اليدوي للكتب وأصبحت تطبع برص الحروف والحبر، وتجلد وتحمل إلى بعيد.
لكن أمتع ما في الكتاب، تلك الطقوس التي كانت تلازم القراءة، وآلية الاستماع للنص المقروء، ذلك أن القراءة لم تكن مفردة في بداية تعرف الناس إليها، بمعنى أن ينكفئ أحدهم على نص في عزلة تامة، ويستمتع به، أو يستخلص منه المعرفة، ولكن تجري في مجموعات، تجلس للاستماع بينما هناك معلم وغالبا هو أحد القساوسة، يقوم بفعل القراءة، ونعرف أن التعليم كان قديما من وظائف الكنيسة، والمدارس التي تنشأ، يقوم برعايتها قساوسة، يهتمون أولا بتدريس النصوص المقدسة، ثم العلوم الأخرى بعد فلترتها، بحيث لا تقترب أو تعارض الدين المسيحي. ويقول المؤلف أن هذا الطقس كان يحدث نشوة كبرى لدى المستمعين تقترب من الطرب، وشخصيا أظنها نشوة الاكتشاف التي يحدثها فعل الإلمام بمعلومة معرفية جديدة، بعكس ما يحدث معنا الآن في هذا العصر، حيث لا نشوة، ولا طرب لأي اكتشاف، وباتت الدنيا كلها مكتشفة، يمكننا الخوض في تفاصيلها ببرود شديد.
أيضا تعرض الكتاب لطرق ممارسة القراءة، والأدوات المساعدة لكي تتم القراءة بمزاج جيد. هناك مقاعد وطاولات خاصة، وجلسات متعددة يتخذها المرء أثناء قراءته، هناك من يقرأ مستلقيا، وهناك من يقرأ ماشيا أو راكضا، وحقيقة ذكرني ذلك بطقوس الكتابة نفسها، وهي لا تختلف كثيرا، حيث لدى كل كاتب، طقسا معينا، ووضعا معينا يريحه أثناء الكتابة، فقط أصبح تعدد الطقوس صعبا كثيرا في السنوات الأخيرة، لأن استخدام جهاز الكومبيوتر، وحتمية الجلوس مقيدا إلى مقعد أثناء الكتابة، قلل من تعدد الوضعيات.
أعتقد أن القراءة الجماعية، برغم تقلصها كثيرا، وجنوح القراء إلى العزلة والإنفراد بكتاب، هي الأفيد للباحثين عن المعلومة، في الكتب العلمية، حيث يمكن أن يدور نقاش مهم أثناء فعل القراءة، وبالتالي فائدة كبرى لكل من يستمع أو يناقش، بعكس القراءة الأدبية، فهي التي يصلح فيها الإنفراد بالكتب ومحاولة الاستمتاع بكل ما فيها، ذلك أن الأدب في معظمه وبرغم القضايا الكبرى التي يحاول معالجتها، هو كتابة مسلية، وسلسة، ويمكن أن يخرج القارئ حين ينفرد بكتاب ممتع لفترة طويلة، بقصة حب كبيرة مع ذلك الكتاب، والسعي لكتب أخرى مشابهة.
أذكر في بداية تعرفنا على القراءة الجماعية، وكنا تلاميذ صغارا، نقيم في مساكن تابعة للدولة، في مدينة بورتسودان، أن تصدى العم: حمزة، لمهمة القراءة لنا، وجعلنا مستمعين منتشين بما يقرأه في كل مساء. كان العم حمزة كما أذكر الآن، رجلا مسنا، نحيلا، يملك ما يسمى بالطبلية، وهي كشك متحرك من الخشب، يبيع فيه أشياء خفيفة أمام المستشفى، ويقيم في نفس الوقت عند أحد جيراننا، لم نكن نعرف هويته، ولا صلته بجارنا، لكنه نجح في تجميع معظم التلاميذ الذين يقيمون في ذلك الحي، أول كل مساء، والقراءة لهم من كتب تحمل الحكمة والتسلية. لقد سميت ما كان يفعله حمزة، بالبث المسائي، لقناة أرضية محدودة لكنها واعية، وكانت وسيلة الترفيه الوحيدة لأمثالنا في ذلك الوقت، والآن وبعد سنوات طويلة، أعود لأتذكر تلك المساءات، وأعتبرها من ترف الزمن الجميل الذي لم يتكرر مرة أخرى.
أعتقد وبما استخلصته من قراءتي لكتاب مانغويل، أن هناك جانبا نفسيا كبيرا في فعل القراءة، ربما يعتبره القارئ، أمرا عاديا، مثلا: طريقة تنظيم المكتبة وطريقة فوضاها أيضا، والإنجذاب للكتب إن وضعت بطريقة ما، وتركها إن لم تكن في الوضع الذي يريده القارئ. هناك من يحب كاتبا معينا مثل أمادو و خورخي لويس بورخيس، ويعتبره نهر قراءة لا ينقطع، وإن أراد قراءة غيره، فهو يضع كتب الغير بجانب كتبه، حتى ينجذب إليها.
حين طبقت الكثير من ما ذكره كتاب القراءة على سلوكي الشخصي تجاه الكتب، وجدت أشياء ولم أجد أشياء أخرى، فأنا من النوع الذي يقرأ أكثر من خمس كتب في وقت واحد، وتكون جميعها مفتوحة عند صفحة القراءة، أعود إليها كلها يوميا محاولا إنهائها، ومن الغريب حقا إن الأفكار بداخل كل كتاب لم تكن تتداخل، وأستطيع تمييزها وتذكرها. هذا السلوك بلا شك موجود عند كثير من القراء، ولعله يعود إلى صعوبة إيجاد وقت للقراءة الهادئة المتزنة، أو لعلها اللهفة لمعرفة ما بداخل الكتب كلها في نفس الوقت.
إذن ، والقراءة تاريخ طويل من زمن أرسطو طاليس، ومن زمن أن كان العثور على كتاب، أشبه بالمستحيل، إلى الزمن الذي أصبحت فيه الكتب تزاحم السكان في بيوتهم..أعود وأكرر دائما، بأننا لم ننته من زمن القراءة بعد، ولن ننتهي منه بكل تأكيد، لأن التكنولوجيا الحديثة، ما كان لها أن تخرج إلى الوجود، وتطبق لولا أن هناك من اكتسب المعرفة من قراءة الكتب، وطورها بعد ذلك.
كتاب آلبرتو مانغويل، كما قلت يمنحنا معرفة كبيرة، ومتعة كبيرة، لأنه صيغ بأسلوب أدبي بعيد تماما عن الأسلوب التوثيقي المعقد.
أمير تاج السر