جربت في حياتي المهنية بصفتي صحافيا كل فظاعات العالم: فقد رأيت جثثا ممزقة، وشاهدت اصدقاء قتلى، وهشمت قذيفة أمام ناظري رأس محارب، ووقفت صامتا أمام كومة تراب غطوا عند أسفلها جثث المحاربين ببطانيات. لكن لم يوجد شيء كان يشبه المشهد الذي تبين لي في تلك الليلة الربيعية في شهر أيار 1985 في مطار بن غوريون. فقد كان ضجيج محركات الحافلات الآتية والذاهبة، والصرخات هنا وهناك النقيض التام للحظات الصمت تلك أمام الجثث الصامتة. بلغنا في تلك الليلة الى مطار بن غوريون سرا وجمعنا متحدث الجيش الاسرائيلي الذي اختار ممثلا واحدا عن كل وسيلة اعلامية لاستعراض المشهد: فقد كان ثم 1154 مخربا يعودون الى بيوتهم في اطار صفقة تبادل أسرى. وكان المقابل ثلاثة من جنود الشباب الطلائعيين الذين يبدو أنهم ناموا وهم يحرسون في لبنان واختطفهم مخربون من منظمة احمد جبريل. وكان في مجموعة الصحافيين ايضا نشطاء سلام من الباحثين عن الصداقة مع الشعب الفلسطيني، وانقبضت قلوبهم وكادت تنكسر ايضا. وأمام أعيننا المتطلعة وفي ضوء المصابيح صعد الى الطائرة واحدا بعد آخر مخربون كان لكثيرين منهم ‘دم على اليدين’. ونزلوا من الحافلات ووجهوا أيديهم الى شرطي عسكري وقف بالقرب منهم وحررهم من القيود، وجروا سريعا الى درج الطائرة الهابطة، ووقفوا ثانية بقرب الباب وأشاروا باصبعين بعلامة ‘في’ للنصر. أُقر وأعترف بأن المشهد كان لا يحتمل بالنسبة إلي وتعديت الحاجة الى أن اكون مراقبا موضوعيا. وكل من أشار بعلامة ‘في’ نحونا لاقى يدي التي ارتفعت الى أعلى (وتألمت بعد وقت طويل) وأشارت إليه بما يسمى اليوم ‘حركة معيبة’ جدا. عزّيت نفسي عزاء أغبياء بأن يكون هذا هو المشهد الأخير الذي يأخذونه معهم من الارض المقدسة. تجدد النقاش في الافراج عن سجناء مخربين قاتلين هذا الاسبوع على أثر نشر نية الحكومة ان تُفرج عن أمثال هؤلاء مع تجديد المحادثات مع الفلسطينيين. كان ذلك في المرة السابقة جدلا معلنا عاصفا على أثر نية استبدال أكثر من ألف مخرب بالجندي المختطف جلعاد شليط. يبدو بنظرة سطحية أولى أننا جُننا وفقدنا عقولنا لأنه لا توجد دولة اخرى في العالم تسلك هذا السلوك. وبنظرة ثانية، غير متعمقة بصورة خاصة ايضا، هذا ما يميزنا في العالم بالضبط وليس لهذا تفسير منطقي. فهذا شيء يأتي من القلب: انه ذلك الشيء الذي هو لنا فقط لأحسن أو لأسوأ. نعرف كيف نكون قُساة ايضا. لكن ما يقوله عنا في الحاصل العام صحيح وهو ان اليهود رُحماء أبناء رُحماء. إن الجدل العام الذي بدأ هذا الاسبوع قد يكون رائدا للحكومة. هكذا كان في السنوات الطويلة قبل صفقة شليط، ولم يكن كذلك قبل صفقة جبريل. قال اسحق رابين بعد تلك الصفقة انه يأسف للسرية التي لفتها. وربما كان يفضي نقاش عام قبلها الى قرارات مختلفة. ومن هنا نتبين أهمية النقاش المعلن في هذه المسألة الصعبة المُرة. فهو قد يفيد متخذي القرارات وقد يشير الى أعدائنا والى اصدقائنا ايضا الى الصعاب والأخطار التي تترصدنا. وعلى كل حال فهو قرار أصعب من ان يحتمل ـ وهي اللحظات التي لا يريد أحد في اثنائها ان يتولى رئاسة حكومة في اسرائيل. لكن يجب علينا ان نقرر، في حين يوجد في القسم الخلفي من أدمغة متخذي القرارات في تلك اللحظات كل الجهود والوسائل والقوى التي بُذلت لاحتجاز اولئك الأوغاد. وهم يعلمون ايضا انه اذا وحينما يحين في يوم ما يوم السلام مع الفلسطينيين لن يكون مناص كما يبدو من الافراج عن كل سجنائهم في جميع الأزمان. ومن شبه المؤكد ان يكون هذا من المواد الاولى في كل اتفاق سلام في المستقبل.
لن يبقي أسير واحد عندكم ان شاء الله !