تصدع منظومة الحكم العربي، جراء السياسات المرتبكة والخيارات المرتجلة، ساهم في انقسام الأمة وتفاقم أزماتها، ومن الطبيعي في بيئة مثل هذه أن ينتعش التطرف السياسي والديني، ويتضاعف مزيج المشاكل الداخلية والتحديات الخارجية على المستويين الإقليمي والدولي، بما يقلص آمال الشعوب في مستقبل أفضل، من حاصل واقعها اليومي، وهشاشة النظم الاجتماعية، وعدم تجذر المبادئ الكونية التي شيدها الفكر البشري، وملازمتها للطبائع الإنسانية، وغياب نظم الحماية الاجتماعية، التي بإمكانها استيعاب اللحظات الصعبة من التاريخ، كما هو الحال زمن الأوبئة، ناهيك من أن هذه الأنظمة لم تقدم شيئا يذكر للقضية الفلسطينية، بل يُبشر بعضها بالتطبيع مع الكيان الصهيوني، ويدفع باتجاه تصفية الحق الفلسطيني، والمشاركة في تزوير التاريخ، وخذلان أصحاب الأرض والمقدسات.
وعندما تضيف الدول العربية لاستسلامها السياسي والدبلوماسي، خنوعا اقتصاديا وثقافيا للنظام العالمي المتردي، وما خلقه من تفاوت بين قلة تمتلك الثروة والنفوذ، وكثرة لا تمتلك شيئًا على الإطلاق، فإن فئات واسعة من الشعوب تدفع أثمانا باهظة، بسبب الخيارات الرأسمالية المعادية للنظام الإنساني، والمعطلة للعدالة الاجتماعية، والمُغيبة للحل الديمقراطي وقيم المساواة والمواطنة، ولا يتعدى تكديس النصوص القانونية، مراكمة سياسات التمويه والمراوغة، وكل ما ازداد «نص» إلا وازداد «لص» بشكل يؤبد الفساد والاستبداد، ويقمع الحريات والنضال من أجل الحقوق. فالمساواة القانونية من دون سياسات اجتماعية لصالح الفئات المستضعفة «تكرس الفجوة الاجتماعية ولا تردمها» بتعبير عزمي بشارة.
والوعي بواجبات العمل في إطار الجماعة السياسية، والتمييز بين مطالب الحزب ومطالب المجتمع والدولة، مسألة على درجة كبيرة من الأهمية، لأنها تدفع نحو استيعاب دولة المواطنة، في إطار من التجانس والوحدة الوطنية، على اعتبار أن الدولة في وجه من وجوهها، إنما هي مشروع سياسي ذو طابع مؤسسي، وهي التي تحرص على ضمان مجتمع يسوده الوفاق، ضمن الحد الأدنى من القواسم المشتركة.
في زمن كورونا ووقْعِ مساراتها المجهولة، مازالت أجندات العولمة متداخلة أشد التداخل، ومليئة بكل الاحتمالات المقلقة، خاصة إذا كانت تعني في جوانبها السياسية والاقتصادية والحضارية، والعلمية والثقافية، والبيئية والفكرية، الإمعان في تباين خريطة العالم الجيوبوليتكية والاقتصادية، بمعنى أن يزداد انقسام العالم إلى دول غنية، تُمعن في الإثراء على حساب دول فقيرة تزداد فقرا. والعولمة حالة محرجة أيضا في جانبها العلمي، إذا كانت تعني المزيد من التطورات في الهندسة الوراثية، وهندسة الجينات، التي تستفز القيم والأخلاقيات الإنسانية، وهي مقلقة إذا كانت تدفع في اتجاه مزيد اغتراب الإنسان المعاصر، وعدم قدرته على التحكم في التحولات، مادامت قوى الهيمنة تتجه إلى تزكية منظرين متطرفين، نحو صدام الحضارات، وسباق التسلح بأخطر الأسلحة الكيماوية والجرثومية والنووية، على نحو الإبقاء على فرضية اندلاع حروب أكثر عنفا ودموية من سابقاتها عبر التاريخ. وهي مزعجة بالأساس، إذا لم يعد للساحة العالمية سمة التوازن الدولي الذي يضمن عدم استفراد دولة معينة، أو بُنى امبراطورية بالشأن العالمي، كما هو الحال منذ عقود.
تصدع منظومة الحكم العربي، جراء السياسات المرتبكة والخيارات المرتجلة، ساهم في انقسام الأمة وتفاقم أزماتها
ولا مجال اليوم، في ظل الهوة المادية الكبيرة، والفجوة التقنية بين مختلف الأطراف الدولية، أن يُعاد من جديد إيهام الدول التابعة، بقدرتها على الالتحاق بالدول المتقدمة، وبأنها أطراف مؤثرة على الساحة الدولية، على شاكلة ما تمت إشاعته زمن الحرب الباردة، في سياق ما سمي الحوار شمال ـ جنوب. وعلى دول العالم الثالث أخذ زمام المبادرة، ورسم استراتيجيات قومية، وتفعيل سياسات اندماجية، لإنقاذ أوطانها وفرض حضورها ضمن الساحة الدولية. خلاف ذلك تخاذل وإمعان في التبعية، وإضاعة للفرص في واقع تحولات العالم المتسارعة، وارتباك النظم الدولية المعهودة. فالعقل السياسي الراجح يدرك أنه كان لتحرير الأسواق المالية والنقدية، الذي أقرته حكومات الدول الصناعية الكبرى، ولذلك «الانفتاح المزعوم» توابع عديدة، على حساب واقع الدولة المحلي اقتصاديا واجتماعيا، أقلها تقليص دور الدولة في الإنفاق على المشاريع الوطنية، والتفريط في المشروعات الكبرى للخواص، وهو ما غيب بشكل حتمي «العدالة الاجتماعية». ويبدو أن الأمر الأقرب إلى الحقيقة ما أشار إليه بيتر مارتن وهارالد تشومان وهو «التعارض» بين الديمقراطية والسوق المعولمة.
وضمن هذا الواقع الحضاري هناك كتّاب ومفكرون يدعون إلى إعادة طرح «مشروع دولة الرفاه» في الستينيات والسبعينيات، ولكن بصيغة معدلة، تغلب عليها الديمقراطية الاجتماعية، والطابع الإنساني والعقلاني العام. وثمة آخرون يقترحون إعادة النظر بجدوى الحضارة القائمة من أساسها، ومن التيار الفوضوي من يدعو إلى الإقدام على نسف مرتكزاتها من الجذور. ويشير آخرون إلى أهمية تعزيز البعد الروحي لدى الإنسان الفرد المعاصر، الذي أوهمته الحضارة القائمة بآمال كبرى، وافتقر بفعل أوهامها وصدماتها إلى نمط من الوعي الكوني، أحاله كيانا معزولا وهائما، ولعل في ذلك شيئا من مداخل التحليل النفسي، لتفاقم ظواهر العنف والتطرف وكراهية الآخر المختلف، والإقدام على إقصائه على قواعد لا يمكن فهمها في كليتها، عندما نراها تحدث بين الحين والآخر في أكثر من مجتمع. ويطل تشومسكي دائما من خلال «خلفية إنسانية عميقة» على جميع القضايا العالمية، مبتعدا عن الأصولية الفكرية، ليمرر إشارات حية، تختزن توقا نحو ضرب من التحرر السياسي والإنساني وتحقيق العدالة الاجتماعية. والمهم في نظره أن تتوسع جبهات الرفض و»المقاومة» لمصلحة مبادئ التحرر من الطغيان المالي واللون الاقتصادي الواحد، مشددا على أن التدهور المالي والأزمات الاقتصادية المتتالية، تُخفي سيناريو قد أعد سلفا، لإعادة تشكيل النظام المالي العالمي على مرتكزات غامضة لا تعلمها سوى القوى الكبرى المتحكمة في الساحة الدولية.
مفاهيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان ليست «مفاهيم جوفاء» بل حقائق ملموسة إلى أبعد حد، ولكن الذين ينعمون بهذه الامتيازات ويعتبرونها حقوقا مكتسبة لا يعلمون إلى أي حد أن هذه الحقوق «شبه الطبيعية لهم» هي «أحلام غير ممكنة التحقيق» بالنسبة إلى الآخرين المحرومين منها. وهذا «المسار التاريخي» كما يسميه داريوش شايغان، يختزنه عقل كل إنسان عاش قمع الأنظمة الشمولية و»طغيان الأيديولوجيات». وبالمحصلة يجب على الشعوب العربية التي تعبئ حركتها الاحتجاجية، أن تعلم أنه لا توجد وصفة سحرية جاهزة لنجاح عملية الانتقال الديمقراطي، كذلك انهيار السلطة أو ازاحتها، لا يعني بالضرورة انهيار الدولة بمثل ما تحاول منابر التبرير السلطوية أن تقدمه. فالمسألة رهينة وعي وطني جامع، وإرادات صادقة تدرك أن مجرد إسقاط الأنظمة لا يفضي نحو طريق سالكة، إذ يمكن أن يرتد الأمر إلى ديكتاتورية عسكرية أكثر قمعا من النظام السابق. وتبقى عملية إصلاح النظام من الداخل وتسهيله لعملية التحول الديمقراطي، وإرساء مؤسسات دولة مستقرة وفاعلة ومحاربة الفساد هيكليا أسلوبا في الانتقال نحو الديمقراطية، بالنظر إلى خبرات وتجارب التحول الديمقراطي وسماته المختلفة وطرقه العديدة على الصعيد العالمي.
كاتب تونسي