تندرج هذه الرواية ضمن السيرة الروائية، وهي أحد الأنواع التي ينتجها التقاء الرّواية بالسيرة الذاتيّة، على غرار السيرة الذاتية الرّوائيّة والسيرة الروائية الذاتية. وهي تسميات متقاربة اللفظ، لكنّها مختلفة في مستوى علاقتها بالميثاق السيرذاتي وبذات المؤلف وبالمرجع. ولعل السيرة الروائية التي تعنينا في هذا المجال تعتبر جنسا متلبسا بالوهم، ولا تلتزم إطلاقا بالميثاق السيرذاتي. فهي تنسج علاقة وهمية بين المؤلف والسارد أو الشخصيّة التي تطرح سيرتها، موهمة بالتطابق لكنّها تضرب في عوالم شتى من التخييل. وهو شأن هذه الرواية، فالشخصية الرئيسية تنسج هويتها من شخصية المؤلف الحقيقي، ومعطيات حياته، وتوهم بكون الروائي يتحدث عن نفسه. فهو يتحدث عن إبراهيم وأمه محبوبة وهو أصيل الجريد التونسي وخريج مدرسة المعلمين. «تهنا في سبخة التاكمرت مدة من الزمن لا يعرف عدها إلا الله. كانت الشمس تشرق فوق رأسي ورأس أمي محبوبة في الصباح».
هكذا تحط بنا هذه البداية في محراب السيرذاتي. فهي سرد بضمير الأنا وهو السرد الغالب على هذا النوع من السرد والمتكلم يتبنى اسم المؤلف إبراهيم واسم والدته محبوبة، ويحط بالقارئ في جهة قريبة من موطنه الجريدي. لكن ذلك ليس غير نوع من الخديعة الجمالية.
سيرة العجيب والغريب
الكاتب يركب عصا التخييل، مبتعدا عن الواقع، مفاجئا القارئ بتطورات غريبة وغير مألوفة، ساردا تفاصيل عالم عجائبي متنوّع، قاطعا بالتالي مع السيري، جاعلا منه فقط مجرد أسلوب كتابة. فإذا شخصية إبراهيم الروائيّة تعيش غرائب وعجائب وتتعرض للمسخ، وتقتحم قصور الأساطير والسحر والتعاويذ. وقد تحوّل بدوره إلى شخصية عجائبية، تتصرف فيها أرملة العم.
وقد انطلق الرّوائي في تخييل هذه الرّواية ومشهد بدايتها، أي مشهد الضياع من المعتقدات الشعبية حول هذه الصّحراء وكثرة من ضاعوا فيها وابتلعتهم الأرض. فها هو ولد محبوبة يتحوّل إلى قرد ثم تزجّ به زوجة العم في القصر الخيالي بعجائبه وتنصبه سلطانا: «وقامت من جديد فألبستني منامة بأزرار لطيفة تبرق بريق التعب وخفا، ودعتني إلى مسايرتها فتبعتها حتى وصلنا إلى نهاية الممر الذي ينتهي عند الباب الكبير، فأوقفتني إلى الحائط وغطت عيني بقطعة من قماش» ثم ترفع عنه الغطاء وتصرح له: «هذا قصرك أيها السلطان. هنا ستمارس حكمك دون حسيب ولا رقيب على أمتك ومملوكتك بدر البدور بنت الملك الغيور ومن والاها من الجواري الحسان من الأنس والجان».
هذه المناخات العجائبية التي تسهم في صناعة السرد العجائبي من فضاءات وأفعال وأدوات سحرية خاضعة لمخيال «شبيك لبيك» وقوانينه، تغلب على هذه الرواية وعلى سيرة ولد محبوبة، الذي استخدمته زوجة العم في تحقيق رغباتها ورغبات حريفاتها من الباحثات عن اللذة والفحولة، ممارسة عليه طقوسا غريبة وعجيبة ودافعة به إلى فضاءات تتزايد غرابتها. «أوقفتني أمام مدرج مخفٍ تحت باب من النحاس، عليه طلاسم ورسومات عجيبة كالخطوط التي يرسمها النمل على الرمال». هذا المخيال العجائبي يبدو مألوفا في سرد الروائي إبراهيم الدرغوثي فقلمه يتوغّل كثيرا في هذه الدروب الساحرة. فكثيرا ما يطلع علينا في سرده أصحاب الكرامات والعجائب وقصورهم وملوكهم وجواريهم وأدواتهم الغريبة، وكثيرا ما يقودنا رواته إلى سراديب عميقة يخرج من طياتها العجب العجاب…
سيرة المرجع أو من زمن بورقيبة
لكنّ السيرة الرّوائيّة وهي ترتاد مناطق قصيّة من التّخييل، ضاربة في أرض الغريب والعجيب، تحافظ على صلة ما بالمرجع، جامعة بين الوهمي الخيالي، بطبيعته الرّوائيّة، والمرجعي الحقيقي. وهذا ما يفعله الروائي إبراهيم الدرغوثي الذي يقحم ما يرويه في إطار اجتماعي وسياسي مرجعي. فأحداث روايته تدور في الجنوب وفي الزمن البورقيبي، وتوظف واقعة تجنيد النظام التونسي للطلبة وترحيلهم إلى الصحراء لحفرها. وهي صفحات من تاريخ السياسة التونسية. فبفضل العجائبي يصبح لإبراهيم – السارد القرد وليس الروائي ـ وجها آخر، أو تابعا بلغة العجائبيين، يدرس في مدرسة تكوين المعلمين في العاصمة، ويتعرض للاعتقال بسبب التظاهر ضد النظام، احتجاجا على المساعدات الأمريكية المذلة. فقد «كانت أصوات الطلبة المحتجين على زيارة باخرة الزيت والذرة والثياب القديمة المستعملة، ترتفع وراء أسوار الجامعة وفي شوارع تونس العاصمة». وكان القرين يتقدم الصفوف حتى «وجد نفسه محاصرا من كل الجهات وصوت أجش يطلب منه الاستسلام».
يعتقل ولد محبوبة ورفاقه الطلبة ويلقى بهم في ظروف مهينة في ثكنة صحراوية ويطلب منهم القيام بأشغال فلاحية تحت إشراف عسكريين، وتقتل أحدهم الشمس الحارة، ويتدخل الجان مجددا لخدمة ولد محبوبة، وتسهيل ظروف عمله في هذه الثكنة وتضليله بسحابة خفية.
فالكاتب يمزج هذا المرجعي بالعجائبي، فتخترقه الخرافات ويفقد مصداقيته التاريخية ليزيد التصاقا بجماليته وإدبيته. فالمادة المرجعية لا تدخل الرواية بصلابتها وصدقها، لكنها مادة يعاد تركيبها وتلوينها، لكن هذه الهشاشة التي يقابلنا بها المرجعي لا تخلو من جد ومن قراءة للتاريخ وتذكير به. فتصرفات القادة والمسؤولين في الرواية تكشف سياسة الولاء للزعيم الواحد، وما كان يحظى به بورقيبة لديهم. وحوادث اعتقال الطلبة وتعنيفهم وتشغيلهم في الصحراء تكشف عن جانب مما تعرضت له الحركة الطلابية وجريمة إخفاء الطالب الذي قتلته الشمس من طرف آمر الثكنة، أيضا هي استعادة لوقائع اختفاء بعض السجناء في تلك العقود…
وصفوة القول إنّ رواية «القرد الأوتوماتيكي» تكتسب طبيعة ساخرة، وهي نصّ يعتنق خطابات كثيرة ويعيد تركيبها وتلوينها باللون الرّوائي. فهي سيرة روائية طريفة يغلب عليها الغريب والعجيب لكنّها تحتفظ بأصداء التربة المحلية، من خرائط وفضاءات مرجعية وأحداث في الذاكرة. هي لا تخلو من نصوص وافدة عليها، مشكلة في داخلها خريطة تناص واسعة يوظف فيها الروائي خرافات شعبية وأقوال مسكوكة كثيرة وآيات قرآنية وخطابات سياسية مختلفة. وهي مواضيع جديرة بالبحث والتقصي، تزيد وصل هذه التجربة بالمنجز الروائي للكاتب إبراهيم الدرغوثي وما يتخلله من تجريب متواصل.
كاتب تونسي