القشّة التي قصمت…

إلى ابنتي رند

القشّة هي العود الدقيق والنحيف، لكنه يكاد يبلغ وزنَ جبلٍ أسودَ، وإلا ما كانت كسرت ظهر الدّابة حسب المثل: «القشّة التي قصمت ظهر البعير» وهو الأقوى بين الحيوانات في تحمّل الصِّعاب «كسرا فيه انفصال» كما يقول معجم العرب في شرح معنى الفعل «قصم» بعد أن كان البعير مطمئنّا إلى حِمْلِهِ منذ بدء الخليقة حتى هذه الساعة. تهبّ ريحٌ، وتحمل معها ذرّةً لا يتجاوز وزنها عشَرَة غْرامات، أو أقل من ذلك بكثير، وإذا بالذرّة الحقيرة تُضاعف ثَقلها لسبب مجهول إلى أكثر من مئة ألف مرّة، ومليون مرّة، وأكثر… فالبعير الذي يحمل عددا من الكيلوغرامات، يُمكن لراعيه أن يزيده 10 كيلو و20 و50، ولا يبرك، ثم يحمّله 100 كيلو زائدة عن المعتاد، والنتيجة أن الدابّة بركت، وعندما رفعوا عنها شيئا من حملها، اعتدلتْ، ثم قامت. فما هو الثقل الذي يخسف ظهرها فلا تقوم بعد ذلك أبدا؟ والسؤال الأبلغ يكون عن السبب الذي يمكّن ذرّة أن تُضاعفَ وزنها تريليونات المرّات، وتبقى في الوقت نفسه في الظّاهر والباطن والجوهر قَشّة؟
الأمر معنويّ إذن، ولا علاقة له بالكمّ والثّقل والوزن، ويصحّ في جميع أوجه الحياة، في المال والأعمال والأحوال، وفي حُسن المرأة وفي شكيمة الرجل. المرأة جميلة وحسناء وساحرة، وشقٌّ رفيعٌ أهيفُ تسكنه القشّة يحجز بين الثلاثة، والفتى مقدامٌ ومضطرب ورعديد، والقشّة ذاتها بين هؤلاء هي الفيصل. كما أن الفرق بين البناء الذي يتساند ويبقى، وذلك الذي يتهاوى على الدوام، هو قَشّة في كائنة الأوّل، صيّرتْهُ هرما يضاهي خوفو أمام صروف الزّمان، وبين باب الجنّة وبوّابة النّار ليس سوى ذرّة واحدة، فما أرسخها من قرار! كما أن ما يفصل بين الصّداقة والحبّ وعاطفة الكُره بين بني البشر ليس سوى قَشّة، إن الأساس الحاسم في ما نقول ونؤمن لا يكمن في أذهاننا، وكلّ فرد يحمل منظومة تتطابق أو تتنافر مع غيره، والقلب في كلّ شيء هو آلة التّفضيل وتكبير الأمور وتصغيرها، فهي التي ترى القَشّةَ جبلا أسودَ، أو عكس ذلك. كما أن العين لا ترى، وما يبصره الفؤاد هو الأهمّ، والوجود ما هو إلا غور سرّيّ، والنّفوس تسكن في أقبية تسودها العتمة، ولا كاشف لها غير ضوء القلب، الذي يبين لنا القَشّة التي تتحكّم في مصائرنا والطرق التي نسلكها كي نصل أو نتوه عن الدرب.
لكنّ حديث العلم يختلف تماما عمّا يقوله أهل الأدب، إذ يقسّم العلماء دماغ الإنسان السّويّ إلى نصفين يسير العمل فيهما وفق خطين متوازيين لا يلتقيان، هما الدماغ الذي يفكّر والدماغ الذي يشعر، والثاني هو الذي يصفه أهل الأدب «بالقلب». يرى العلم أنّ هذه المضخة لا شُغل لها غير دوام تدفّق ماء الحياة الأحمر في عروقنا، فلا تفكير ولا شعور ولا وعي أو غير وعي ولا جهل تام إلاّ في الكتلة الدهنيّة عجينيّة الملمس التي تسكن الرأس وتحرسها عظام الجمجمة من المؤثرات والأمراض والرياح. هناك علاقة غير صحية أبدا بين الدماغ المفكّر والدماغ الشاعر، فما يقوم به الأول ينقضه الثاني على الأغلب، رغم أن الكثير من الأحكام التي يقوم بها الدماغ الشاعر غير مُنصفة وتحمل قدرا من العسف والجور، لكنها هي التي تقودنا في الأخير، لأن الذي يحكم ويرعى شؤون المرء تمّ إسكاته بواسطة نصفه الثاني، أي العقل الشاعر، ويبدو أن العالم سائر في سِجال وحرب دائمين منذ الأزل بين هذين النصفين من عقلنا، وتقرّر الجهة الغالبة نوع الحياة التي يعيشها الفرد، والمصير الذي يسير إليه، إن الدماغ المفكّر لا يستسلم في العادة بسهولة، فهو يصارع ويقاوم عندما يكون الفرق واضحا وخطيرا بين حقيقة وأخرى، وعندما يُهزم في الأخير يصنع كلاما فارغا يعرف أن الدماغ الذي يشعر يرغب في سماعه، ويحصل بذلك صلحٌ بين النصفين اللذين تخاصما فترةً ثم عادت المياه صافية جارية. نوع من الغشّ يحدث داخل كلّ نفس منا، بدرجة متفاوتة بين أحد وآخر، يدعوه العلماء «الانحياز للذات» يحصل عندما يقوم المرء بمحاباة نفسه بصورة زائدة، ويؤدي هذا النوع الخطير من الغشّ إلى أن يتمسك أحدنا برأيه ويطلق أحكاما تجري وفق الهوى والرغبة والميل إلى جهة دون أخرى. يبلغ هذا الانحياز مقدار قشّة ليس أكثر، لكنه يغيّر الدرب والجهة والمكان كلّه، وسوف يجعلنا نرى الأسود أخضر أو أبيض، وبهذه الطريقة يرتكب البشر الخطأ والجريمة ومختلف أنواع الشرور، من كذب وافتراء يظنّ صاحبه أنه يقوم بالعكس من ذلك تماما، فالرذيلة تصير فضيلة والنور ينقلب إلى ظلام، وتؤدي البلاغة دورها فتصف ما يجري بأنه قناعة داخلية من المستحسن التمسك بها، لأن الثبات على الرأي أجود من تقلبه كلّ يوم، وترسخ القناعة الداخلية بمرور السنين وتصير طبيعة ثانية أكثر تأصلا وأوسع مدى. لقد تمّ الإجهاز على ما يراه الدماغ المفكّر من حقيقة ناصعة بصورة وحشيّة فلا دور له، وبقي الدماغ الشّاعر وحده في الساحة.
عندما يتقلّد المرء منصب حاكم مطلق اللسان واليد في الرعيّة فإن عددا لا يُحصى من الجرائم يمكن أن تُرتكب بهذه الطريقة، ثم يقوم هذا الطاغية بتشجيع الأقربين منه على إسكات أدمغتهم المفكّرة، إلى أقصى حدّ ممكن، عن طريق إفساد ضمائرهم بواسطة المال والمنصب، دون احتجاج من الدماغ المفكّر لهؤلاء. لقد تمّ تخديره كاملا وبصورة دائمة، وربما صار هو المُدافع عن حقّ الطّاغية في ظلم الرّعيّة. بمرور الزمن تتشكّل بين حاشية الحاكم الغاشم عقيدة قويّة للغاية تؤدي بهم في الأخير إلى ما يسمّى «الشعور الجمعي بالذنب» وهو شعور لا واعٍ يدافعون بواسطته عن الطاغية إلى آخر قطرة من دمائهم، فيتجسّسون على الناس جميعا بمن فيهم أهل بيتهم، ولا يتورعّون عن إيقاع الأذى بهم، أو يسوقونهم إلى الأقبية والزّنازين، ويقومون بتعذيبهم بوحشيّة، ويستبسلون في أعمالهم مهما كان ثقل الظّلم الذي يجري ويتحمّله تراب الوطن. لقد فاقت القشّة وزن مئات وآلاف وملايين الجبال في وزنها، وقام بهذا التزوير الخطير دماغُ الإنسان الذي اكتشف المجرات ووصل إلى أعماق المحيط وأقام له سكنا هنا وهناك، والسبب يعود إلى هذه القشّة التي يمكن أن تميل إلى جهة اليمين أو الشمال في ميزان الأعمال، ولا تحتاج أن تهبّ في سبيل انتقالها إلى عاصفة، يكفي حتى فواق نملة عابرة لتتحرّك هذه الذرّة وتنتقل من جهة الحقّ، وتسكن ميدان الباطل.
ثمّة مثل يقول ما محبّة إلاّ بعد عداوة، والحبّ الذي يأتي بعد عداء يكون نقيّا وصلبا ويستمرّ مدى الحياة، كما أن العداوة التي تحصل بعد المحبّة فهي من أشرس أنواع البغضاء، وقد تؤدي إلى ارتكاب قتل أو تشويه للضّحيّة، ونسمع في أخبار الناس كثيرا مثل هذه القصص التي تجري بين فتاة وفتى، ويحدث حبّ من طرف واحد، فيتقدّم الفتى لخطوبة البنت التي أحبّها أكثر من نفسه التي تعلق بخيطها الروح والجسد، فإذا ما صدّت العاشق الولهان ابنةُ الناس، قصد مباشرة إلى ارتكاب جريمة بحقّها، والفعل مثال على دور القشّة التي قلبت الأبيض مباشرة إلى أسود، وكأنّ ما يحدث تطبيق حياتيّ لما يُدعى في الشرع بالسحر الحرام.
يقول نيتشه «إن الشّخصيّة البشريّة مستعمرة من الغرائز التي كان من الممكن أن تجعل منّا أشخاصا آخرين لو أننا لم نصطدم بملابسات الحياة» ويشبّه الشاعر غوته الإنسان بسائق عربة تجرّها خيول لا يجمعها رسن ولجام ورابط، وعلى الحوذيّ جمعها على طريق السِكّة بواسطة التّهديد والضّرب بالسّوط، فالخيول هي الرغبات الدفينة التي لا تحسب حسابا لأيّ شيء غير إشباعها الأعمى. إذا أُطلقت الغرائز وتمكّنت من المرء، فإنه سائر حتما في طريق لا يؤدي إلى هدف، مثل مُسَرْنَمٍ يتقدّم في الحياة غارقا في حلُم مطبق لا يمكن أن يُوقظَ منه للفت انتباهه إلى قوىً غير محدّدة تقوم بنهشه ليلا نهارا ولا تُبقي منه غير عظام خشنة لا روح فيها، كأنه ميت وهو حيّ. هنا تؤدي التربية الدينيّة والأسريّة داخل البيت والمدرسة والمجتمع، دورها في تقوية دور الدماغ المفكّر، من أجل رفع هيبته في داخلنا، وما يؤدي ذلك إلى ارتقاء نفسيّ ونضج روحي تكون مهمته رعاية النفس من الأخطار المحدقة بها والتي سببها الغريزة. لقد أودع الله في نفوسنا، بالإضافة إلى الغريزة، كنوزا من الخير والحقّ والجمال، ذلك الثالوث المقدس الذي عبده اليونانيون في قديم الزمان، لأنه يجعل الحياةَ سهلة والرّوحَ ليّنةً وعذبة، ويقودنا إلى تفوّق في الإشراق والمعرفة، وهو كامن فينا ولا بدّ أن نستخرجه ليرى النور، والأمر لا يتطلب أكثر من أن نحرّك يدنا ونُبعد هذه القشّة كما يُنفضُ غُبار الطريق آناء النهار، وكما تُبعد الجداجدُ الصّخّابة خلال اللّيل.

كاتب عراقي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية