تنتمي القصة القصيرة جدا إلى الأنواع الأدبية الموجزة، وتعبر عن تحول في الكتابة السردية، في تزامن تفاعلي- وظيفي مع تحول موقع القارئ ضمن عملية الكتابة- القراءة. غير أن هذا النوع السردي الموجز( ق ق ج) ما تزال وضعيته البنائية، وفضاؤه النصي، ومساحته اللغوية، تطرح سؤال أدبيته، على الرغم من تراكم نصوصه، ونشاط حركة الاهتمام به ثقافيا. ولعل الأمر، يعود إلى أسباب متداخلة، نقترح من بينها اثنين: من جهة، هيمنة الأشكال السردية ذات المساحة الممتدة على الذاكرة المقروئية، مثل الرواية والقصة القصيرة، ومن جهة ثانية، يضع هذا الشكل الموجز تحديا كبيرا على القارئ، الذي تعوَد الاشتغال بعد انتهاء الكتابة/النص، وفي وضعية (ق ق ج)، فإن دوره يرافق عملية تحقق نصية الكتابة. فهل يتوفر الشرط التكويني لـ(ق ق ج) في السياق العربي على قارئ يمتلك ثقافة الشراكة، والقدرة على المبادرة والفعل والإنتاج؟ يحتاج هذا الشكل الموجز إلى مرافقة نقدية، في سبيل دعم مفهوم الشراكة الإنتاجية، التي تشكل أهم مظهر للزمن الراهن.
من أجل الوعي ببعض الخصائص الفنية والتقنية والجمالية والمعرفية التي تحدد أدبية (ق ق ج ) نقترح اعتماد مقاربة نصية لنموذجين من التجربة المغربية، منطلقين من التذكير بعلاقة (ق ق ج) بالاقتصاد، وليس بالتلخيص. وعليه، وجب معرفيا، الاهتمام في قراءة النص بآفاق متنوعة خارج زمن السرد. وعلى القارئ أن يوسع المنطق البنيوي للنص. تحققت قصة «يوم واحد من العزلة» للكاتب رشيد الخديري على الشكل التالي:
«انتفض غارسيا ماركيز من نومه وهو يتصبَّبُ عرقاً، أخذ قلماً وورقة بيضاء … دوَّنَ بيدين مرتعشتين فصلاً من روايته الجديدة، وعاد إلى سريره الدافئ سعيداً بما كتبهُ …. طوال مقامِه في هذا الفندق الريفي ظلَّ يبحثُ عن لحظةِ صفاء ذهني … في الصباح بدا منشرحاً وهو يعيد قراءة ما كتب، فجأةً وجد فقرة مهمة من الفصل مبتورة، بقي ساهما للحظات…. هو الذي استطاع العيش» مائة عام من العزلة»، لم يقدر الآن على كتابة رواية «يوم واحد من العزلة».
يسرد هذا النص حدثا واحدا، في فترة زمنية قصيرة، ويُولد الحدث بتركيبته حالة، تميز الشخصية المحورية في النص/ شخصية غارسيا ماركيز. لا تحضر الشخصية هنا رمزا، إنما هي شخصية توجد بين البين، أي بين البعد الواقعي/المادي المتمثل في حمولتها المرجعية التي تعود إلى شخصية الروائي العالمي الكولومبي «غارسيا ماركيز»، وبين البعد التخييلي للشخصية من خلال وضعيتها المركزية في حدث هذه القصة، أو ما عبر عنه الناقد المغربي رشيد بنحدو لـ»البين – بين طاقة إبداعية قوية تسعف الكتابة على تحصيل مكاسب وامتيازات لا تدرك لا بالمماثلة ولا بالمغامرة»(1) .يساهم البين- بين أسلوبيا في جعل «النص يتسم بسيولة مطلقة، تصير الكتابة معها كالماء يتلاطم بين ضفتين، فيتخذ كل الأشكال والألوان، من غير أن يستقر على شكل، أو يتماهى مع لون. فهو يتكيف مع هيئة البين – بين من غير أن يكف عن كونه ما هو» (2). يشخص الحدث زمن مخاض الكتابة لدى «غارسيا ماركيز»، باعتماد الوصف المادي (العرق يتصبب، اليدان ترتعشان…)، ووصف الحالة النفسية (الانشراح).
يتكثف حدث النص، باعتماد شكل التقطيع الذي يُضفي على النص إيقاعا شعريا، يشبه الخطوات. ويصبح كل مقطع/جملة عبارة عن نص في وضعية تفجير القصة، وذلك حسب القارئ ودرجة تفاعله معها.
تعطينا القصة انطباعا بواقعية ما يحكى، لأن الشخصية النصية «غارسيا ماركيز» مثبتة في السجل الواقعي، وتحضر بوضعها الاعتباري داخل القصة «روائيا»، وتضيء القصة بُعدها النفسي السيكولوجي في علاقة مع زمن مخاض كتابة الرواية. تختار القصة نموذج «غارسيا ماركيز» لتحيين الوعي بزمن الكتابة، وقد عبرت الكتابة السردية في هذه القصة عن إكراهات الكتابة وفلسفتها بشكل المفارقة التي تحققت مع النهاية، أو ما يصطلح عليه بتلاشي الحكاية بين «مئة عام من العزلة» الرواية المُحققة في الواقع، التي اشتهر بها غارسيا، وبين الفشل في كتابة رواية «يوم واحد من العزلة» في التخييل السردي. ونسجل هنا ملاحظة تخص طبيعة الكتابة السردية الراهنة، التي بدأت تناقش أسئلة الكتابة داخل الكتابة نفسها، مثلما نجد مع مصطلحي «التخييل الذاتي والمحكيات» وأيضا مع السيرة الذاتية الروائية». بهذا المعنى، تصبح الكتابة السردية الآن بتنوع صيغها وأنواعها، مجالا لتطوير أسئلة النقد من داخل زمنها التخييلي.
إن اعتماد النص على تقنية البين بين في ما يخص هذا السفر بين الواقعي والتخييلي، بين رواية غارسيا «مئة عام من العزلة» وبين الحلم المتخيل «يوم واحد من العزلة»، تجعل النص في وضعية التكون المستمر، بفعل الحضور الضمني القوي للقارئ الذي من المفروض أن يُفجر الاقتضاب، ويُوسع مساحة التكثيف، ويُحرر اللغة من اقتصادها، ويمد من زمن الحكاية، وذلك عبر تفكيك التناص بين الحالة التخييلية لشخصية «غارسيا ماركيز» وعلاقته بمخاض «يوم واحد من العزلة»، وبين المرجع الواقعي للمؤلف «غارسيا ماركيز» وروايته المادية «مائة عام من العزلة». فهل نستطيع أن نتحدث- حسب هذا الوضع- عن النص المولد؟
تنتج هذه القصة ببلاغة سردها المكثف، وجملها المقتصدة، واستثمارها للسفر بين الواقع والمتخيل ( بين البين) رؤية فلسفية حول زمن الكتابة الذي يصعب الوعي به، ويبقى زمنا غامضا ومثيرا ومدهشا. أما القصة الثانية «ماء الحب» لعبد الله المتقي، فقد تجلَت كالتالي:
«أرملة على شرفة شقة تحتسي الشاي، وتطل على الشارع من خلف زجاج مبلل، تتأمل حبيبات المطر.
فجأة، يطأ شتاءها منظر شاب وفتاة ملتصقين تحت مظلة سوداء، ويسرعان الخطو.
تتنهد الأرملة، وتختفي في مراهقتها كي تتذكرها والمرحوم يسيران تحت المطر بلا مظلة في انتظار الأوتوبيس، كانا يعيشان الحب بكل تفاصيله من دون التفات للآخرين.
)يختفي الشاب والفتاة من الشارع، تختفي الأرملة من الشرفة، ووحدها حبيبات المطر تبلل النافذة وسقف المظلة».
تتأسس (ق ق ج) «ماء الحب» على ثنائية المشهد. ومن ثمة على حكايتين متوازيتين سرديا. مشهد أرملة توجد على شرفة الشقة، ومشهد شاب وفتاة تحتويهما مظلة سوداء تحت المطر. تحضر الشرفة باعتبارها فضاء العتبة، زمن الانتظار والأزمة كما حددها الناقد الروسي ميخائيل باختين، تكثف الحالة النفسية للأرملة. تحدد العتبة/الشرفة موقع الأرملة بين واقع العزلة والوحدة، وبين ماضي علاقتها بزوجها.
تحضر حكاية الشاب والفتاة الموجزة عاملا مساعدا لانفراج زمن الانتظار، عبر حث مشهدهما على الأرملة لكي تعيش فضاء خارجيا يتجاوز العتبة وأزمتها، والانتظار وعزلته، وترتمي الأرملة في فضاء التذكر، لتستعير منه مشهدا مشابها، يعيد إليها زمن الشباب. عبر الفضاء الخارجي (التذكر)، يدخل مشهد ثالث إلى النص يتجلى في المقطع السردي: «في انتظار الأوتوبيس، كانا يعيشان الحب بكل تفاصيله من دون التفات للآخرين». يُكثف هذا المقطع السردي زمن التذكر من حكاية المرأة رفقة زوجها، وحالة الحب التي عاشتها بصحبته، ومسار لقاءاتهما، كأنهما يملكان العالم، لهذا لم يكونا ينتبهان إلى الآخرين. تشخص هذه الجملة السردية الحالة النفسية التي تعيشها الأرملة في عزلتها، فهي تراقب الآخرين، وتتابع خطواتهم من الشرفة، في الوقت الذي لا يهتم الشاب والفتاة بمن يراهما، وهما تحت المظلة السوداء.
تنتج هذه القصة أيضا رؤية فلسفية حول حالة الحب، التي تجعل صاحبها يشعر بأنه وحيد زمنه، ولا يهتم بالآخر. إن العزلة فضاء أزمة بامتياز، لكونها تُخرج الذات من حالة الحب، وتجعلها تعيش الفراغ الوجودي. لولا الذكريات لبقيت الشرفة علامة العتبة/الأزمة. وكأن نهاية القصة تستعيد هنا قولة باشلار، «العزلة لا تملك تاريخا».
وظف عبد الله المتقي في هذا النص السرد، والوصف، وتحليل النفسية للشخصية، واعتمد الفضاء في تحديد موقع الشخصية، وعبره تم تبئير المنظورات، كما اتسمت الجمل بالترتيب المنظم، والإيقاع المسموع، كحبات المطر الخفيفة. جاءت اللغة تشبه الحالة والمشهد، وتحولت الحالة إلى حدث بفعل فضاء الانتظار. ما بين افتتاح السرد وتلاشيه، تصنع القصة رؤيتها حول العزلة والحب وفضاء الانتظار.
كل حديث عن شكل تعبيري جديد، هو حديث عن مجتمع يتحول، كما يصبح أيضا تعبيرا عن الوعي بالتغيير.
كاتبة مغربية
زهور كرام
وانا اقرا ما كتب استمتعت بقراءة القصتين اكثر مما استمتعت وانا اقرا التنظير لقن القصة القصيرة جدا.طبعا انا ادرك انني اقرا مقالا تنظيريا لجنس ادبي،وان المقال مخصص لهذا،وهذا سبب كتابته اصلا.هل يبعدنا النقد عن الادب؟او هل السؤال:هل نحن بحاجة الى النقد؟صحيح .
تذكرت وان اقرا المقال التاثرية التي ترى ان الكتب وضعت لتقرا،لا ليقاس عليها،لان القياس والتفسير والتعليل تفسد المتعة التي لا يريد التاثريون فقدانها ،حين يقيسون ..عموما المقال تنظيري ويهم فئة محددة ،وهو ضرورة لدارسي الادب،ولكنه ،ومثله النقد التنظيري،يبدو جافا.هل ستزدهر التاثرية من جديد؟
كنت انتظر مناقشة تجنيس القصة القصيرة جدا ..او تلمس خصائصها البنيوية ..من خلال نصوص عديدة في العالم العربي او المغرب لكن ليس بتصين يمكن التاشير على نظرية في النقد الادبي ..ربما العنوان يقتضي التعديل ليصير قراءة نصين في القصة القصيرة جدا ..