في العملية الإبداعية الجادة والعميقة، وما تنتجه من نصوص ناضجة ومتألقة، ثمة حقيقة جلية، تنطلق دائما من خبرة الروح لا من خبرة الاحتراف ومكنة التعبير فقط. الخبرة الروحية هي القاسم المشترك والجوهر الثابت نسبيا بين هذه الفنون، سواء كانت شعرا أو سردا أو موسيقى أو سينما أو لوحة تشكيلية، خبرة الروح تكاد تجمع القصة القصيرة جدا وقصيدة النثر كتوأمين!
يمكن وصف خبرة الروح، أنها ما يتبقى في ذهن المبدع عبر مخاضه لزمن طويل في معترك حياته، ووجوده وخلجات نفسه، وتوقه للانطلاق لأقصى مدى من الحرية والتفتح، هي من منظور آخر ما يترسب في القلب من فرح أو حزن، نصر أو انكسار، تقدم أو نكوص، عتمة أو نور، ومن مزيج القراءة والمعايشة، والمتطلع دوما للمزيد، وهي في النهاية مداد لا ينضب للإبداع، كما الخمر المعتق في أعماق دن، هرس فيه الكثير من عناقيد العنب.
لكن هذا لا يعني أن خبرة الروح تغني عن المعرفة المنظمة والدرس والدربة الحرفية بالإبداع، دونها نجده عفويا فطريا يمنحنا الدهشة والنشوة ونظل نحس بقصوره، وحاجته إلى روافع أخرى ليرقى إلى ذروة موضوعه، أو يكون معبرا عن هموم عصره وتطلعاته، كما إن الإبداع الذي يقوم على مكتسبات معرفية، حرفية أو أكاديمية فقط، نجده خاليا من الروح مهما بدا متقنا أو أنيقا، فقط حين تنصهر الخبرة الروحية بالدراسة والدربة المتواصلة يولد الإبداع الناضج المتميز، الذي يحمل روحا وإضاءة ونكهة لا تنسى، سواء كان شعرا أو نثرا أو لونا أو لقطة سينمائية، أو حتى مقالة فكرية أو سياسية.
ثمة مقاربة صحيحة، أن القصة القصيرة هي كالشعر خلاصة خبرة الروح في عزلتها ونأيها عن صخب العلاقات الجماعية، وفوضى التعبير العام، خاصة اللغة المستهلكة والمتداولة داخل المجتمع كعملة يومية، معانقة للغة القلب والمشاعر المهمشة والمحبوسة أو المنبوذة، لغة الفرد الواحد الفاقد لتواصله مع الجماعة، والمتطلع في الوقت نفسه، لصحبتها، لكن بشروطه هو لا بشروط الجماعة. والشعر العميق المنطلق من تفجرات النفس الداخلية لا من المناسبات والشعارات والاحتفالات العامة، أو المكتوب حسب الطلب ولغايات نفعية، شعر القلب والعالم الخفي هذا ينطلق كما القصة من شعور المبدع بتوحده وانفراده في ميدان صاخب زاخر بالدعوات والمشاريع المتضاربة، التي كثيرا ما يرافقها سفك للدماء وانتهاك لحقوق الإنسان، حيث ينبري الشعر الزائف وعادة يكون موزونا مقفى، ليصب الزيت على النار، بينما يتقدم الشعر الحقيقي بهدوء ورهافة ليقدم إشاراته الموحية والمبشرة، ويكون الواحة الخضراء في هذا الهجير، والمرسى في بحر متلاطم الموج مكتظ بالحيتان والكواسج.
في هذا المنحى يتوحد الشعر والقصة، لا في المنشأ والمنطلق وحسب، بل في المآل والنهاية والموقف من الذات والوجود والصراع الأبدي، الذي لا يهدأ منذ الميلاد وحتى الموت.
نشأت القصة القصيرة من الحكاية البسيطة العفوية والمرتجلة عادة، كانت مهومة مبعثرة متنافرة الأوصال، وشيئا فشيئا تكثفت وصارت لها بؤرة أو ذروة وحبكة ونهاية، ربما هي سبقت الملاحم والرواية والمسرحية إذا اعترفنا بأن القصص التي كانت ترويها الجدات للأطفال هي الخلجات، أو الإرهاصات الأولى للقصة القصيرة، يمكن القول إن القصة القصيرة شعبية ويومية، وكل منا يروي قصصا قصيرة كل يوم، فقط على أيدي كتاب محترفين تأخذ شكلها الفني وتدون وتنشر. ثمة من يعتقد أن طول أو حجم القصة هو الذي يحدد نوعها ويعطيها هذه التسمية. بينما المعيار ليس هذا، إنما موضوعها، أو جوهر موقفها وقضيتها، فقد تكون قصة بعشرين صفحة وتظل قصة قصيرة، وقصة بصفحتين ولا تكون قصة قصيرة، بل ربما هي افتتاحية لرواية أو ملخصا لها، أو ليست شيئا على الإطلاق. يقول فرانك أوكنور في كتابه «الصوت المنفرد» الذي شغلنا في السبعينيات، وأقبلنا على قراءته كأنه دستور القصة والقصاصين: إن طول القصة لا يحسم نوعها، بل هو وعيها الحاد بالوحشة الإنسانية. الموضوع هو الذي يحدد نوع القصة وليس شكلها أو حجمها وحسب، وهو لا يخرج عن أفق القلب الإنساني، والحديث عن الحشود الكبيرة يقتضي سردا طويلا إلا ما ندر. وربما هذا هو أساس استنتاج أوكنور، أن الكثير من رواد القصيرة وكتابها البارعين كثيرا ما يتخلون عنها حين يتقدم بهم العمر فيتجهون إلى الرواية، لا عن خيانة للقصة القصيرة، بل لتطور طبيعي في وضعهم، حين لم يعودوا يحسون باستيحاشهم الفردي، عندما تقدموا في العمر وانغمروا في حياة الجماعة، حيث لاعتبارات معينة ألقوا على أنفسهم مهمات كبرى تتجاوز الذات، ولم تعد القصة القصيرة تستوعبها، ثمة من يقول إن الرواية لا تكتب بشكل جيد إلا في عمر النضج بعد الخمسين، وفي ذلك إشارة أخرى إلى أن الإنسان بتقدمه في العمر يخرج من وحدته وعزلته الحالمة، وهي الجو الملائم للقصة القصيرة وللشعر، ويغدو أكثر تقبلا لحياة الجماعة وتفهما لحسناتها وسيئاتها واستعدادا للتعبير عنها.
المعيار الذي وضعه أوكنور في تحديد نوع القصة، ينطبق بشكل أكثر إلحاحا على القصة القصيرة جدا، فهي غير محكومة بحجمها فقط، بل بموضوعها، الذي ينبغي أن يكون أشد توهجا وبإيقاع أكثر تسارعا، مما في القصة القصيرة، وأن تمتثل لوجع وعذابات القلب البشري مهما بدا مشغولا بأحداث يومه أو وقائع عصره. القصة القصيرة جدا تلم المعاناة الموزعة هنا وهناك في بؤرة، وكثافة وتركيز دقيقين. وكما إن القصة القصيرة ليست تلخيصا لرواية، فإن القصة القصيرة جدا ليست تلخيصا لقصة قصيرة، والعكس صحيح أيضا، أي لا يجوز تحويل موضوع لقصة قصيرة جدا، إلى قصة قصيرة، وكما أتذكر إنني في كثير من الحوارات والنقاشات التي دارت في السبعينيات، كنت أقول إن كثيرا من القصاصين يتناولون موضوعا لا يصلح سوى قصة قصيرة جدا، فيمدون فيه ويتوسعون لصفحات وصفحات فيكتبونه قصة قصيرة حد صنع الملل والضجر للقارئ وتبديد حبر المطابع، وإتعاب عمالها، بدلا من تقديم موضوعهم بصفحة واحدة أكثر أو أقل قليلا متمتعا برشاقة وخفة ظل.
ثمة مبدعون وجدوا أن النثر يعبر عن أحاسيسهم بدقة أكبر من الكلام الموزون المقفى، فصار عندهم الشعر متوهجا وعميقاً وصادقا! بعبارة أخرى أن النثر بلغ عندهم درجة من التوتر والكثافة والعمق والجمال، ما جعلهم يستغنون عن أي طريقة تعبير أخرى مهما كانت راسخة.
وضعت سوزان برنار في كتابها «قصيدة النثر من بودلير حتى يومنا» ثلاثة شروط لقصيدة النثر «وهي الإيجاز والتوهج والمجانية» وهذه إلى حد ما ذاتها شروط القصة القصيرة جدا، وإن اختلفت قليلا أو كثيرا في شرط المجانية، فالقصة القصيرة جدا لا تظل في منطقة العتمة والغموض المبرئين من غاية ما، خاصة إذا كانت فردية اجتماعية لا أيديولوجية فهي تريد ثمنها في التأثير الاجتماعي أو الفكري، وتتوخى الوضوح في النهاية.
ثمة نقاد يتحدثون أن قصيدة النثر نشأت في أحضان الشعر الفرنسي، وعلى يد الشاعر الفرنسي بودلير، وأن إشارتها الأولى انطلقت عندما سمح الشاعر لنفسه بأن يتوسع في البيت الشعري من سطر واحد ليكون فقرة، تحولت في ما بعد إلى نص نثري شعري. وإنه أخذ إيقاعا سرديا وتضمن ما يشبه الحكاية ذات البداية والذروة والنهاية، بل إن بعضهم اشترط أن تكون قصيدة النثر حكاية مكثفة مركزة يكون إيقاعها ليس نغميا وحسب، بل نموا وإيقاعا دراميا ملموسا واضحا بقدر ما هو غامض سابح في عتمته الموحية.
من خلال متابعتي لقصيدة النثر العربية تكون لديّ رأي قد يبدو غريبا، لذلك بقيت أطرحه على نفسي على هيئة سؤال: هل إن قصيدة النثر عندنا تطورت أو انبثقت من القصيدة التقليدية؟ أم من النص النثري وأحيانا من القصة القصيرة أو النثر عموما؟
محمد الماغوط رائد قصيدة النثر عربيا، بدأ بكتابتها وهو صحافي يحرر مجلة «الشرطة» السورية، وسركون بولص وهو كما أرى من أهم شعراء قصيدة النثر، لا في العراق وحسب، بل في البلاد العربية بدأ إبداعه الأدبي بكتابة القصة القصيرة، ونشر الكثير منها في مجلة «الآداب» وأنسي الحاج بدأ شوطه الكتابي صحافيا، في المقابل نرى أن شاعر القصيدة التقليدية يرفض ويستنكر المس بعموده الشعري، وكثيرا من شعراء قصيدة الشعر الحر يحاولون استرضاء العموديين، بإثقال قصيدتهم بما لا داع له من الوزن والقافية، وإن نازك الملائكة التي كانت رائدة في التجديد، وفي إبداع الشعر الحر عادت في كتابها «قضايا الشعر المعاصر» لتعلن توبتها وعودتها إلى بيت الطاعة للشعر التقليدي، وتعلن تمسكها بالوزن والقافية. وأتذكر أن الجواهري في حوار لي معه كان يقول، كنت أفضل أن أضع افتتاحية جريدتي «الرأي العام» قصيدة، وهذا يعني بشكل ما أن نظم قصيدة أسهل لديه من كتابة نص نثري.
أنسي الحاج الذي يعده أدونيس أول من كتب قصيدة النثر في العالم العربي يقول في اعترافاته التي أدلى بها في لندن عام 1988 لنوري الجراح ونشرت في مجلة «الناقد» إن قصيدة النثر قد تلجأ إلى أدوات النثر من سرد واستطراد ووصف، لكن كما تقول سوزان برنار «شرط أن ترفع منها وتجعلها تعمل كمجموعة، ولغايات شعرية ليس إلا.
في ظل ملابسات إبداعية كهذه، ثمة مبدعون وجدوا أن النثر يعبر عن أحاسيسهم بدقة أكبر من الكلام الموزون المقفى، فصار عندهم الشعر متوهجا وعميقاً وصادقا! بعبارة أخرى أن النثر بلغ عندهم درجة من التوتر والكثافة والعمق والجمال، ما جعلهم يستغنون عن أي طريقة تعبير أخرى مهما كانت راسخة، بل صار الشعر القديم والمتوارث قاتلا لشعرهم ومواهبهم، معيقا لهم عن الوصول إلى عالمه الخفي والبعيد، الذي هو منطقة الشعر الحقيقية.
روائي عراقي
استاذي العزيز، مقالة جيدة وملمة. شكرا. دمت مبدعا.