تلعب الأحداث التاريخية الكبرى، خاصة الفجائعية منها، أدوارا أساسية في تطوير وتحديث وعينا بالقضايا الملحة، سواء منها القضايا ذات الصلة بالمجال الفكري الإبداعي، أو الأخلاقي. وتتضاعف أهمية هذه الأدوار، بتضاعف جسامة الأحداث المنوطة بها، وشدة ما يترتب عنها من تداعيات مأساوية، تنعكس سلبا على إيقاعات الحياة العامة، كما هو الشأن بالنسبة للأجواء الجحيمية، التي لا يتوانى العدوان الإسرائيلي في تفجيرها حاليا، في طول وعرض فضاءات غزة.
ذلك أننا، وبقوة هذه الأحداث، نتمكن من إعادة النظر في أوهام القيم السياسية والتشريعية، التي دأب المنتظم الدولي على اعتمادها كأرضية ممكنة لإقامة دعائم حضارية وإنسانية بين الشعوب. كما أننا إلى جانب ذلك، نتمكن خلالها، من إعادة النظر في الأصل المرضي، لكل هذه الوحشية المتطرفة، التي يمارس فيها كيان لقيط، من حثالة الكيان الإسرائيلي، طقس التطهير العرقي والإبادة الجماعية، ضدا من كل المواثيق الناظمة للعلاقات الدولية.
وكما هو معلوم، فإن طبيعة الآفاق المستشرفة من قبل المسارات التاريخية ومنعطفاتها، تتحدد حتما على ضوء الدروس المحصلة من إعادة النظر هذه، التي نعتبرها بحق محكا موضوعيا، ومؤهلا بامتياز لتشريح ما يتنزل عليه من معطيات. وسيكون من الضروري في هذا السياق، استحضار إشكالية العلاقة القائمة بين الإبداع والواقع، من منطلق راهنية الدور المركزي، الذي تلعبه الأحداث الجسام، في الدفع بالإشكالية إلى واجهة النقاش، حيث تبدو الشعوب العربية مسكونة بالبحث عن بريق سند رمزي، تجد فيه متنفسا لمعاناتها من أهوال الإجرام الصهيوني ومجازره. وهنا تحديدا، تنبثق مقولة الالتزام، باعتبارها المرجعية المثالية والنموذجية، التي يطمئن إليها السؤال، بما تحيل عليه – انسجاما مع قناعة متبنيها – من تحفيز لروح المقاومة، واستنهاض للهمم. سوى أننا لا نلبث أن نصطدم بسؤال آخر أكثر مرارة، يستفسر عن جدوى القول بأهمية الإبداع، أمام كل هذه الجثامين الفلسطينية، المتراكمة على مرمى النظر، والمحاطة بجوع الحيوانات الضالة المتربصة بها؟ كما يستفسر عن جدواه أمام قسوة الدمار الزاحف على الأحياء والقتلى من كل حدب وقصف؟ ثم ماذا بوسع نظريات الانعكاس أن تزايد به، حول وهم التعالق الملتبس، بين واقع درامي أمسى مفرغا تماما من واقعيته، وهاجس جمالي، ليس له سوى أن ينكب على إحصاء ضحايا الغارات، بعد أن أمسى منزوع اليد واللسان؟
تساؤلات، لا قبل لها مطلقا بالإنصات إلى تراتيل هوميروسية، أوعنترية تقليدية كانت أم حداثية، ما دام القتل وحده يهيمن على المكان، مستفردا كما ترى أو لا ترى، بقطعان اللغة والقول، وبكل ما يصطخب في دواخله الظلامية من همجية، لا مثيل لها، على وجه الأرض أو تحتها. وسنكون مدعوين في هذا السياق تحديدا، للتذكير بأن أهم ما تتميز به علاقة الإبداع بالواقع، هي تلك الإضاءة اللامتوقعة والمباغتة، التي يحدث أن يسعف بها كل منهما الآخر، كاشفا بذلك عما لم يكن من قبل مرئيا ومعلنا. خاصة حينما يكون الواقع، في منأى عن مآسي الحروب ونكباتها، أو على الأقل، في مأمن من انهمارات صورها الحارقة التي لا تبقي ولا تذر، ذلك أن تبادل الكشف والإضاءة، هو السمة المساهمة في توثيق تلك العلاقة الشائكة والملتبسة بين الطرفين، باعتبار أن ما نستشفه عادة من حقائق الواقع، لا يعدو أن يكون غيضا من فيض، قياسا بتعدد ما يكتنف دلالاته من غموض، حيث يعتبر الإبداع أحد أهم العناصر الفاعلة في الكشف عن معمياته، بما تعنيه كلمة الكشف هنا، من استكناه جمالي وفني لتلك الأقاليم اللامرئية، والمتخفية تحت لحاء الواقع المعيش، وغير المندرجة ضمن اهتمامات الرؤية البسيطة، المنصرفة مبدئيا إلى إشباع ما تمليه الحاجة الملحة وضرورة الحياة العملية.
ومن الواضح أن تركيزنا على «كشف دلالي» بعينه، يضع المهتم مباشرة في مركز الوظيفة المنوطة بالإبداع، التي من فرط اشتغالها بجدوى القبض على الهارب والمنفلت، أمست من وجهة نظر نسبة كبيرة من المهتمين أساسا بمفهوم الثيمة والموضوع، وظيفة تغميضية، لا أكثر ولا أقل، من منطلق تأبيها على فهمهم واستيعابهم. فيما هي من حيث الجوهر، طاقة كشف جمالي، عما يكون في حكم المنسي، وغير المفكر فيه.
وفي السياق ذاته، يمكن اعتماد غير قليل من الإواليات المستمدة من الواقع، والكفيلة بالإشارة إلى مكامن الدلالة المتضمنة بين تضاعيف العمل الفني والإبداعي. بهذا المعنى، سيكون من الطبيعي استبعاد كل ظاهر سافر ومعلن سلفا، من أرض التجربة الإبداعية، باعتباره معطى مكتمل الانكشاف، وغير معني مطلقا بالتجربة الإبداعية المتمحورة حول هاجس التظهير الجمالي للمتخفي الذي هو في الأصل جوهر العمل الإبداعي والفني. وفي اعتقادنا أن إصرار بعض المناهج على التأطير الواقعي للتجارب الإبداعية في الحالة التي نحن بصددها، يعود إلى فقر مدقع في تمثلها لآليات انبناء العمل الجمالي ككل، وسعيها مقابل ذلك، إلى التبجح بما تتوهمه سلطة إجرائية في المقاربة النقدية، انطلاقا من امتلاكها لسلطة موازية، تتمثل في إنجاز توصيف واف ومقنع للعمل الإبداعي، حيث يمكن القول، إن السمة البارزة لهذا التوصيف، تتمثل أساسا في حشر العمل داخل خانة نظرية واضحة، ومقننة، يهتدي القارئ عبرها وبشكل مباشر، إلى قلب الموضوع.
لذلك، ليس لنا سوى أن نردد من جديد: ما عساك أيهذا الشاعر أن تبوح به، تجاه هذا الخراب المهول الذي تتهافت القذائف من كل الجهات السبع على تعميم كوارثه؟ وما عساك تنشده، وأنت تقف واجما هنا أمام هذه المساحات المنكوبة من جثامين الشهداء، التي هي الآن في طريق التحلل تحت شمس القتل؟ وتلك لعمري هي المفارقة الكبرى، حيث ما من إبداع يمكن أن يعلو على شراسة واقع، كنا قد وسمنا جحيمه في سياق سابق بـ»أرض ما بعد القيامة». إنه واقع غزة، وقد تجاوز من فرط قسوته وعدوانيته، أقصى ما يمكن أن يجنح إليه المتخيل من تغريب، ومن شذوذ. واقع، لم يعد مطلقا بحاجة لأي تلفيق جمالي، يخول له إمكانية امتلاك بطاقة المرور، إلى أزمنة الخلق والإبداع. واقع الإهانة العظمى، التي أمست تطارد عساكر الاحتلال، لتصيبهم في مقتل، بفعل إخفاقهم في تعقب أثر المقاومة، وقد أمست من فرط تخفيها، ملائكة عصية على الرؤية والرصد الحاسوبي، متربعة بذلك عرش الأساطير الحديثة.
إهانة تحل نعلتها تباعا ودونما توقف، على مجموع هذه الألسنة الخرساء، التي طالما تباهت مدونات العدالة الكونية المزعومة بفصاحتها. الإهانة الماحقة التي عمت كل ما تضيق به الأرض من الأعراق والأجناس المتواطئة، التي عرضت أوراق توتها المسدلة بعناية فائقة على عورة شعاراتها، إلى أشد احتراق داهمها، من صلب هذه القيامة الكبرى. فما هو الرهان الأمثل والحالة هذه إذن؟ هل يكمن في القصيدة؟ أم يكمن أساسا في لهيب عبوة الشواظ، المتربصة بترسانات العدو؟ أجبنا أنت! أيهذا الشاعر المجلل بهيبة الالتزام!
شاعر وكاتب من المغرب