استيقظت صبيحة يوم من أيام أيلول/سبتمبر 2019، وكنت حينها في مدينة بولو التركية. تصفحت جهاز الموبايل، وإذا بصديقي الشاعر عبد الرزاق الربيعي، هذا الطفل المرح الودود، ينتشلني من بقايا النوم، ويبلغني تهنئة فيها الكثير من الفرح ونقاء السريرة: «مبارك حصولك على جائزة العويس في حقل الشعر». عشتُ لحظةً وجدانيةً عميقة. فالقصيدة لم تذهب إلى المتاه إذن. ربما توهمت ذلك في لحظة من لحظات الضجر أو الإحساس باللاجدوى.. أما في ذلك اليوم فقد تبين لي أن هناك من كان ينتظر مرورها في اللحظة المناسبة. ومن بداهة القول إن جوائز الكون كلها لا تصنع شاعراً حقيقياً واحداً. وكنت أميز دائماً بين قصيدة الجائزة وجائزة القصيدة، بين قصيدةٍ تكتب، في مسعىً مدروسٍ وماكر ربما، للحصول على جائزةٍ ما، وجائزةٍ تأتي تتويجاً لعمر شعريّ حافل بالابتكار والسهر والألم النبيل.
أشارت لجنة التحكيم، في تبريرها فوزي بالجائزة، إلى ما قدمته من نصوصٍ «حافلةٍ بأسئلةٍ إنسانيةٍ كبرى، وحالاتٍ شعريةٍ متنوعة، صاغها في لغةٍ مقتصدةٍ مكثفة، مستلهماً ذاكرة الطفولة والقرية، وأساطيرَ بلاد الرافدين، وتفاصيلَ الحياة اليومية». وفي التفاتة حميمة إلى عمر شعري محفوف بالتعب والإصرار، مضى المحكمون إلى القول: كان له دورٌ متواصلٌ في تجديد القصيدة العربية، والتنويع في بنيتها وأغراضها، فأضاف طاقاتٍ بلاغيةً وإيقـاعيةً أسهمت في إثراء مخيلتنا الجمعية، وحققت قدراً عالياً من الإدهـاش الجماليّ «.
٭ ٭ ٭
نقلتني تلك اللحظة الفريدة إلى نصف قرن من القلق المشوب بالصبر والمتعة والترقب حين وقفتُ، متريثاً، لبضع ثوانٍ، قبل أن أطرق الباب، الذي سأطلّ منه على احتمالات شتى. كانت لحظة استثنائية، تندُّ عن إيقاع أيامي المألوفة. ثمة مزيج من الأحاسيس، يكاد يتعإلى على الوصف، أمام مكتب مجلة «العاملون في النفط». كنت أعرف أنها تصدر بإشراف الروائي والمثقف الكبير جبرا إبراهيم جبرا. حين فتح الباب، كان أمامي سكرتير إدارة المجلة، أبو توفيق، وهو كهلٌ شديد التهذيب. وكان ذلك في عام 1964، وكنت في السنة الرابعة من المرحلة الإعدادية.
هل يمكن لأحد منّا أن ينسى قصيدته الأولى؟ أعني ذلك الاشتباك الأوّل بين جسده وروحه، بين اكتظاظه بالمعاني والأهواء وعجزه عن البوح. هل يمكن لنا أن نكفّ، ذات يوم، عن تذكّر تلك القصيدة التي أشاعت فينا، لأوّل مرة، رعـدة داخليّة، سال لها عرق قلوبنا وارتعدت أوصالنا من هول لذتها الغامضة؟ كيف يمكن للنسيان أن يقف بيننا وبين تلك الذكرى البعيدة المثيرة للحواس؟ إنّها موعدنا الأوّل مع اللغة وأتون الانفعالات. وهي قدرنا المحتوم الذي قادنا، صدفة، ربّما، إلى حافّة تلك البئر الفوّاحة بالظلام الصافي. ولا أظنّ أن شاعراً ما يمكنه أن يتذكر قصيدته الأولى تماماً. لكنّه يتذكّرها مغوشة تارةً ومحددة الملامح تارة أخرى: تعطّر ذاكرته، وتوقظ في عالمه نكهة غريبة تشبه، إلى حدّ كبير، رائحة مرعىً مغسول، رائحة ليس من السهل تحديدها، لكنّها تقع، هناك، في منطقة ما بين المخيّلة والذاكرة.
٭ ٭ ٭
ما زلت أذكر ذلك اليوم الخريفيّ الخاص من عام 1964 حين ذهبت إلى إدارة المجلة، واقتنيت نسخة من عددها الجديد ولم أكن أعرف أن قصيدتي منشورة في ذلك العدد. كنت قد أرسلت القصيدة مع جارٍ لي، كان يعمل سائقاً في شركة نفط العراق، حيث تصدر المجلة عن دائرة العلاقات العامة فيها. لم تكن قصيدتي الأولى هي الأولى حقّاً؛ فهناك انكسارات كثيرة سبقتها، ومهّدت الطريق لأصواتها أو تمتماتها المبكرة: أشلاء من المعاني والانفعالات، مسوّداتٌ لم تكتمل، محاولات للاقتراب من الشرر. وقبل الوصول إلى القصيدة الأولى كان تخبّطي يصل أقصى مدياته: كان هناك رعدٌ داخليّ خاصّ يوقظ تلك السيول المؤجلة، ويدفع بها إلى الصعود حتى فضاء التعبير. يخيّل لي أنني، في بداياتي المبكرة، كنت مثل من يهرع من نافذة إلى أخرى ملوّحاً لأيّ شيءٍ عابر: غيمة كان أو جنازة أو امرأة، لألفت انتباه العالم كلّه إلى هذه المعركة المريرة التي لا يراها أحد سواي، إلى هذه الفوضى المحيّرة من المعاني، والانفعالات والكوابيس. وكم كان فرحي عظيماً حين كانت القصيدة العاميّة طريقي الأوّل إلى البوح ذات يوم، وأنا ما أزال على مقاعد الدراسة في الصف السادس الابتدائيّ، لكنّني أحسست بعد فترة قصيرة، أن ما أحاول التعبير عنه آنذاك كان أشد وعورة من أن تحتمله لهجتي العاميّة. وهكذا كانت الريح تدفعني بعيداً: إلى الجانب الآخر من نهر اللغة تماماً.
٭ ٭ ٭
حين بعثت بقصيدتي الأولى إلى مجلة «العاملون في النفط» لم يكن يخطر ببالي أبداً أنها ستُنشر وبهذه السرعة. كانت المجلّة، على خلاف اسمها تماماً، تفتح صفحاتها لشعراء الحداثة من الشباب، كان هناك سركون بولص، فوزي كريم، حميد سعيد، عبد الرحمن مجيد الربيعي، خالد علي مصطفى، صلاح فائق، خالد الحلي، وآخرون. وكان يشرف عليها مثقّف ومبدع لامع، هو جبرا إبراهيم جبرا الذي كان ذا شخصية أدبية شديدة التأثير. غادرت المبنى الفخـم، وأخذت في تصفح المجلة وأنا أعبر جسر الجمهورية، الواصل بين إدارة المجلة وساحة التحرير. اكتشفت، وأنا في منتصف الجسر، أن قصيدتي كانت أول قصيدة فيها، مع أن العدد نفسه كان يضمّ مجموعة من الشعراء الذين كان العمر الشعريّ لبعضهم يفوق عمري الزمني. كان هناك، مثلاً، إبراهيم الزبيدي وراضي مهدي السعيد. عدت إلى إدارة المجلة ثانية. كانت لحظة وجدانية نادرة، ومنعطفاً مغايراً لمسار أيامي المألوفة. حين عرف مدير إدارة المجلة أن لي قصيدة في العدد الجديد، أعطاني أربع نسخ أخرى، ومبلغ خمسة دنانير كمكافأة.
في الطريق إلى مدرستي، وكان دوامها ظهراً، أحسست بأن بغداد تتدافع من حولي لترى قصيدتي الأولى، مطبوعة على ذلك الورق الفاخر الصقيل. بغداد كلّها: غيومها وفتياتها الجميلات، نخيلها العالي وأزقّتها المتربة. كنت أتخيّل أن الكثيرين كانوا يتأمّلون عنوان قصيدتي «إلى صديقةٍ مسافرة» الذي كتب باللون الأخضر، بينما خُطّ اسمي بلونٍ آخر، وكان كلاهما مكتوباً بخط الرقعة الجميل.
كان جسر الجمهوريّة، الذي يربط بين جانبي الكرخ والرصافة، يغصّ بالعابرين إلى الجهتين. كان الكلّ يشير إليّ: هذا هو علي جعفر العلاق. هكذا كانت مخيّلتي، في ذروة غليانها، في تلك اللحظة. لم أكن ساعتها أظنّ أن حدثاً آخر يمكن أن يشغل سكّان بغداد، أو فتياتها بشكلٍ خاصّ، أكثر من قصيدتي تلك.
٭ ٭ ٭
في إعدادية النضال، في منطقة السنك، حيث أدرس، كان لقصيدتي حديث آخر وأصداء مختلفة. دخل إلى الصف أستاذ اللغة العربية أحمد نصيف الجنابي، الذي جمعتني به لاحقاً صداقة طيبة وزمالة أكاديمية، وكانت دروسه من أقرب المقررات إلى نفسي، لأنها مجال تميزي بين طلاب الصف الرابع، وغالباً ما كنت أستعير منه الكتب الأدبية، والمترجم منها بشكل خاص. كانت القاعة في وضع لا يبدو طبيعياً. كل مجموعة تتزاحم على نسخة من مجلة «العاملون في النفط» حتى أن معظم الطلبة لم ينتبه لدخول الأستاذ.
حين أبدى استغرابه مما يجري، هبّ الكثير من الطلاب يطلبون من الأستاذ، أن يكون درسهم لذلك اليوم احتفاء بزميلهم، باعتباره شاعر الصف. حينما علم الأستاذ الجنابي بأن قصيدتي المنشورة في المجلة هي السبب في هذه الجلبة التي لم يعتدها سابقاً، تناول المجلة وقرأ القصيدة باهتمام، ثم طلب مني قراءتها على زملائي. كنت أدرك، كما أدرك الأستاذ أحمد نصيف الجنابي لحظتها، أن أكثر الطلاب كانوا يريدون الاحتفاء بالقصيدة هرباً من درس النحو، لا حباً بالقصيدة أو كاتبها.
ومع أن قصيدتي تلك كانت عموديّة، إلا أنني كنت فيها، وفي سواها بشكل أوضح، كمن يحاول أن يشقّ مساراً لم تألفه لغة هذا النمط من القصائد ولا بناؤها البلاغي. أحاول أن أدفع بلغتي إلى أقصى حالات التطرّف حتى تفارق مرجعيّتها الواقعيّة أحياناً. وكانت قصائدي العمودية بشكل عام تنحو، حدّ الالتباس ربّما، منحىً يعتمد الصور والاستعارات التي تتسم بالغرابة.
وكأيّ شابٍ يرى، لأول مرة، ثمرة صراعه مع لغته وأخيلته وعواطفه، كنت مرتبكاً حدّ الفرح. ومع ذلك، وفي الوقت ذاته تماماً، كنت أحسّ بالرهبة أيضاً: لأنّ سؤالاً جارحاً كان يشوّش عليّ فرحتي تلك: ماذا سأكتب بعد قصيدتي هذه؟
شاعر عراقي
التحيّات المباركات للشاعر الفريد عليّ جعفر العلاق؛ وبك أنعم.مقال شدّني مع الفجر.فقط كنت ( أطمع ) أنْ تنشر تلك القصيدة الأولى لنشاركك فرح شروق الكلمات؛ ولو بعد نحو(58) سنة من الجهاد الشعريّ الأوّل.مودّتي.
سيرة حافلة بالإنجازات البديعة.
كلمة ادا سمح لنا المنبر وكدالك الشاعر المحترم شكرا لهد ا وداك بين قوسين لازال العراق وسيظل محبا لشعر في صوره المتميزة الغنية باالحب آه لو عرف الناس الحب ماكان بينهم خلاف لكن كما هو معروف لازالت القصيدة هي حلم الشاعر يرسمها في فضاء خياله ثم يضعها على الورقة ثم يأدن لها باالخروج وقد لاتشيب ادا كانت متميزة