القصيدة: سهمٌ رائشٌ أَم رصاصٌ طائشٌ

حجم الخط
0

حين يسكب الشاعر قصيدته على بياض الورق، فإنه يُواجَهُ بسيل من الأسئلة من لدنْ القراء، خاصة إذا كانت الرؤية تطوف حول ظل امرأة ما: فمن هي هذه المحظوظة التي يتغزل بها الشاعر؟ هل هي حبيبته؟ أم زوجته؟ أم وطنه أم.. أم… ولعل الشاعر يبدو في نظرهم مكابرا أو متكبرا أو متجاهلا حين يجيب عن تلك الأسئلة بقوله: لا أعرف، أو يبادر إلى الهروب من المواجهة، ولعلهم لا يعرفون أن الشاعر يعني ما يقول بعبارته المختصرة والحاسمة: لا أعرف.
إن القصيدة آنذاك تبدو كالغيمة التي قد يرى فيها الطفل وجه أمه أو صورة كائن من الكائنات التي يعرفها، لا لشيء إلا لأن خياله هو الذي يشكل تلك الصورة، ولا علاقة لذلك بالكون الموضوعي لتلك الغيمة المثقلة بالدلالات.
والشاعر حين تتنزل عليه القصيدة من سقف الإلهام، فإنها تبدو مبهمة غائمة، لا يعرف كيف ستكون عليه، ولا ما ستنتهي إليه، ولن يستطيع التخطيط لها أو التنبؤ بخط سيرها، إلا في حالات النظم السقيم، وشعر المناسبات الذي يحول تبر الشعر إلى تراب النثرية والعادية، ومن هنا يغدو سؤال الشاعر عن شعره أشبه بسؤال التشكيك وسوء الظن منه إلى طلب المعرفة، وبهذا تنطوي تلكم الأسئلة على الكثير من خبث القارئ وفضوله، ورغبته في إحراج الشاعر أمام قصيدته/ فضيحته التي لا فكاكَ له منها إلا بقدر كبير التبرؤ من آثامها أمام قارئه. وبهذا المفهوم تغدو القصيدة أقرب إلى رصاصة طائشة منها إلى سهم رائش يسدده الرامي إلى هدف محقق، وقد تصيب تلك الرصاصة طيرا عابرا عن غير قصد في الفضاء القريب، وقد لا تصيب شيئا، لكن ذلك لا يعني مطلقا أن مُطْلِقَها قد سدد إلى ذلك الطائر أو رام قتله، كصاحب السهم الرائش الذي يستهدف ذلك الطائر في مقتل، وإذا كان الحب أعمى كما يقولون، فإن القصيدة تغدو بلا عينين في عتمة الرؤية وضبابيتها.

لا نجد شاعرا يتغزل في امرأة إلا وتبدو هذه المرأة مرشحة للفوز بلقب ملكة جمال العالم، هل هي كذلك في الواقع؟

إن الشاعر أبسط مما تتصورون، وشعره هو ابن الخيال الخصب الذي ينفتح على دنيا لا علاقة لها بالواقع، وحتى «مجنون ليلى» لم تكن ليلى التي تغزل بها هي ذاتها ليلى التي تعلق بها في الواقع، ولعلنا قد نفاجأ لو كان في عصره من الميديا ما يُمكننا من المقارنة بين أوصافها في الواقع، وأوصافها في شعره، لندرك حجم المفارقة، ومقدار البَون بينهما، وكأن الشاعر في غرفة القصيدة قد أجرى لليلى التي تعلق بها في الواقع عشراتِ العمليات التجميلية بمشرط الشاعر وأدواته، لتبدو مرشحة للدخول إلى عالم القصيدة، ذلك لأن بوابة القصيدة تنغلق أمام أي امرأة لا تحقق ذلك الشرط الجمالي.
إننا لا نجد شاعرا يتغزل في امرأة إلا وتبدو هذه المرأة مرشحة للفوز بلقب ملكة جمال العالم، هل هي كذلك في الواقع؟ أم هو عبث الشاعر وجراحته الشعرية تلك التي مكنته من مراكمة كل ذلك الكذب الجمالي حتى أدى إلى قلب الحقيقة؟ إن المحبوبة التي يقصدها الشاعر في قصيدته لا ظل لها في الواقع، بل هي في خيال الشاعر وحسب، إنها تتربع على عرشها في عالم المثل الأفلاطوني، وتقبع في زاوية ضيقة من زوايا الذاكرة، وقد يجد الشاعر في امرأة ما شبحا منها، فيحوم حولها بقصيدته، ظانا أنها هي هي، غيرَ أنه بعد برهة يصبح عرضة للحزن والكآبة، ويلوذ بالشكوى، لا لشيء إلا لأنه اكتشف حجم الفرق بين الحبيبتين أو النسختين: الأصلية والمقلدة، ولعل هذا ما يفسر حزن الشاعر العاشق وكآبته في شعره. ومن هنا يمكن أن نفهم ختام قصيدة «قارئة الفنجان» للشاعر نزار قباني، حين انتهت كل محاولاته اليائسة لاستحضار الصورة المثالية للمحبوبة في صورة امرأة واقعية بقوله:
«فحبيبة قلبك ليس لها أرض أو وطن أو عنوانْ
ما أَصعب أَنْ تَهْوى امرأَة
يا ولدي
ليس لها عنوانْ»
نعم، ليس لها عنوانٌ إلا في مخيلة الشاعر وعالم اليوتوبيا الخاص به.

٭ شاعر وناقد من الأردن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية