للنصوص الإلهية والكتب السماوية ميزاتها الاعتبارية والفنية وهي إلى جانب صفة التقديس التي تحيطها، فإنها نصوص تأسيسية وضعت للبشرية موازين الحياة بكل أبعادها المعرفية ومنها، البعد الإبداعي الذي جعل الإنسان يقف مذهولا أمام بداعة الصانع الخالق الحق، وما يمكن للمخلوق أن يستقيه منه ويبني عليه فعلا إبداعيا يستقي مظانه من النص المقدس، ويبني عليه نصا إبداعيا إنسانيا بمخيلة لا تتوفر فيها صفة الجمالية المطلقة، بل تشيع بدلها النسبية الجمالية.
وليس من أمة عُرفت بإبداعها في ميدان الأدب متمكنة من لغتها إلى أبعد حدود الجمال النسبي مثل أمة العرب، التي كان لشعرها ونثرها باعه الضارب في العمق، إلى درجة أنها وضعت لإبداعها في عصر ما قبل الإسلام منظومة قواعد بمبان خاصة ومقاييس محددة، حتى إذا جاء الإسلام كان القرآن هو التحدي الذي يتموضع في اللغة وقضاياها الأدبية، فتحا وتغييرا وإلهاما وإعجازا، أولا بأن تأتي العرب بمثله قرآنا، وثانيا أن تقول مثله سورة، وثالثا أن تضع مثله آية واحدة.
ولما بُهتت العرب عن التحدي كان الفوز متمثلا في تأثير النص القرآني الذي كان بمثابة إيقاظ جديد للإبداعية الأدبية، كي تضع للمنظومة الثقافية أركانا جديدة توطد فيه القديم، وتضيف إليه الجديد، معيدة استنهاض طاقاتها اللغوية لمزيد من الإبداع. وهكذا راح الشعراء والأدباء يستقون من النص القرآني المقدس بهاءه، مضيفين إلى إبداعاتهم اقتباسات مضيئة تعزز نهجهم الثقافي، وتدلل على إمكانات المخيلة لديهم. وواحدة من بهاءات النص القرآني وروائعه ما أعطى لأسلوب القص من أهمية فنية بها تستجلب الأذهان وتجتذب الحواس والآذان، حاملة السامعين على التدبر في دلالات الشخوص تاريخا ومواقف وصياغات جمالية وموضوعات روحية باتجاه الاعتبار والتصديق، مع المحافظة على عنصر الإمتاع والتشويق. وقد قيل في بنائية القصة القرآنية ومضامينها الشيء الكثير، وانبرت أقلام المفكرين والكتّاب والباحثين تتبارى في التدليل على فنية القصة في القرآن، ودلائلية فعلها وتأثيرها في النفوس مع خصوصية ما تضفيه على عملية الإبداع من تناصات تحقق وظائف تربوية وأخلاقية.
وعلى الرغم من أن الذي قيل في القصة القرآنية كثير؛ إلا إن باب الاجتهاد في تحصيل المزيد من معطيات أسلوبها وفاعلية بنائها وموثوقية غايتها يظل مشرع الأبواب لتحصيلات جديدة أعمق أثرا ومتاحات أكثر بعدا. وواحدة من متاحات القول في القص القرآني، توكيد عائدية السرد العربي إليه كتدليل على أبعاد قدسية تركت أثرها الجمالي على المبدع المسلم وغير المسلم، متجهة بإبداعه صوب مناطق جديدة في السرد، تعتمل في النفس شعوريا، وتكتنز فيها قبل ذلك لا شعوريا. ولا غرو في أن نعد القص القرآني نصا تأسيسيا، لا لأن العرب لم تعرف القص ولم تمارسه قبل الإسلام وهي التي ما قالت الشعر؛ إلا بعد أن تمكنت من النثر بشكله الإبداعي الشفاهي؛ بل لأن القصة القرآنية منزهة عن الخيال، واجبة التصديق لبعديها التاريخي والوقائعي، اللذين لا يحتمل معهما تسويف أو افتراء.
على الرغم من أن الذي قيل في القصة القرآنية كثير؛ إلا إن باب الاجتهاد في تحصيل المزيد من معطيات أسلوبها وفاعلية بنائها وموثوقية غايتها يظل مشرع الأبواب لتحصيلات جديدة أعمق أثرا ومتاحات أكثر بعدا.
وهدف القصة القرآنية الإقناع والإمتاع معا، بسبب ما تحمله من أبعاد توجيهية وتربوية وغايات جمالية، تطبع النفس ذاتيا بالإسلام، وقد أخذت العبرة وتلمست العظة من السابقين وتفكرت في ما سيُقدم للاحقين. وفنية القصة القرآنية تجعلها مستمرة باستمرار الفعل التاريخي، وقد تغلغل في الماضي وكمن في الحاضر وتقدم الى المستقبل. وبذلك يتجاوز السرد فكرة أن التاريخ هو الماضي الغابر الذي ذهب وولى إلى غير رجعة، ويستبدله بمعطى إيهامي ينطلق من وقائع مضت، لتبدو وكأنها الآن في الحاضر تقع، وإنها لا تتخصص في جيل ولى ولا ماض انقضى أو مكان قد كان.
ولهذا بدت القصة القرآنية غير معنية بالآنية ولا المرحلية، إذ لا أجل لها ولا ميعاد، وإنما هي تعين وتخصص وتمرحل باستمرارية كرنوتوبية، وانفتاحية شعرية، وأفعال خارقية تتعدى إمكانات المخلوق عاكسة قدرة الخالق إثابة او عقابا، وليس أدل على خارقية هذه القدرة وأشمل في تصور هولها من القصة القرآنية، لجمعها اللغة بالتاريخ ولمزجها السرد بالايقاع وتوليفها بين الدين والدنيا. ولا خلاف في أن التوفيق بين اللغة وآدابها برسميها وشعبيها والتعاطي مع قص تخييلي عرفته العرب في ما قبل الإسلام، من دون نسيان لدور القص القرآني في الأدب، أمر تحتمه طبيعة قوانين التطور وتستوجبه فرضياتها المنطقية. وقد تمازج القصان القرآني بعصمته وخارقيته، والقص الإنساني بتخييليته ونسبيته، فصنعا سردا، كانت قد دُشنت قوالبه أول الأمر في الحكاية العربية، ثم توفرت متاحات تغيير هذا القالب باتجاه القصة، التي مورست كتابتها تحت مسميات وأشكال اختلفت مع اختلاف العصور الإسلامية. وقد استلهم الحكاء الإسلامي من القص القرآني الشخصنة، التي تعطي للفاعل السردي شكلا إنسانيا تلتف حوله خيوط الأحداث ممحورة الزمان والمكان، بموجهات فنية ولغوية معينة، جامعة التخييل بالتحقيق، جاعلة منهما فعلا محتملا. ولولا وجود القص في القرآن لحُرم السرد أو على الأقل اُلغي من الأدب، لأنه يقوم على الكذب ومذموميته التي تجعله رذيلا غير صالح لتربية النفوس وتهذيب أخلاقها وهو ما تعضده الرؤية المثالية الأفلاطونية.
والفلسفة الإسلامية لم تكن مثالية متعالية ترتكن إلى المثال وحده، وإنما أقرت إلى جانبه بالنظر العقلاني الذي يرى الواقع بمختلف المناظير المثالية والعقلية والشعرية. ولطالما ظل التخييل في المنظور الثقافي المتعالي يعني الافتراء الذي هو مضاد للتحقيق. لكن خارج إطار هذا المنظور كان التخييل قابلا للتصديق والتطبيق، ومحتملا في وقوعه ومتضمنا مع الفضيلة والمنفعة، وهو ما نفسر على وفقه القصة القرآنية، التي رسخت الاعتقاد بفاعلية القص في التفكير مع إمكانية التلاقي بين التخييل والتحقيق على المستوى الإبداعي، ليكون لهذا التلاقي تأثيراته على المستوى العملي أو السلوكي.
ومن الافتراء والتصديق يتكون السرد فعلا لغويا لا قطعية فيه، كما لا ثبوتية له، فعل تعتوره عملية التهجين، غير خاضع للتصديق والتكذيب، وأن ما يضمن للتهجين الرواج والتأثير قابلية الفعل السردي على تطعيم البعد التاريخي بالبعد التخييلي، حيث الأول هو الأساس الموضوعي في القصة القرآنية الذي توظف له ممكنات الجملة السردية، والثاني هو الأساس الجمالي الذي يستنفر في القصة القرآنية ممكنات اللغة الشعرية. وكان الناقد نورثروب فراي قد مال إلى تعميم البعد التخييلي وتغليبه على البعد الواقعي، وهو بصدد تحليل مدونة الكتاب المقدس، مؤكدا أن المعايير الخيالية تنطوي على احتكار للحقيقة، وأنها المعايير الوحيدة المتماسكة، ولعل هذا التغليب هو الذي جعله يذكر في ختام كتابه أنه شَعَرَ وهو يؤلف الكتاب بشعور شيطان ملتون وهو يتخبط في العماء. ونرى أن ليس المتخيل وحده الأساس، بل البعد التاريخي هو الهدف الذي وسيلته الخيال؛ لكن لفراي رأيا حصيفا وهو يقرر واحدية القرآن واللغة العربية، واجدا أن القرآن تداخل مع سمات اللغة ونسق كلماتها، في قوله: «يتداخل القرآن بالخواص المميزة للغة العربية، حتى أن اللغة العربية ذهبت عمليا إلى كل مكان وصله الدين الإسلامي».
لن تكون الشخصية رئيسة مؤدية لدور البطولة؛ إلا إذا تحلت بالفضائل وناصرت الخير وعادت الشر وحاربته، مدافعة عن الحق ومناهضة الباطل، تيمنا بشخصيات القصة القرآنية.
ولا مناص من أن يكون السارد القديم قد عرف كيف ينتفع من القصة القرآنية، جاعلا من الخاتم والعصا والقميص والفأس والدروع والمهد والكبش والكلب والحمار والبقرة والعجل والناقة والنهر والحوت والسد والكهف وغيرها كثير، فواعل سردية يمكن تطويعها بطريقة غرائبية، تستلهم القص القرآني كي تنتج إبداعا سرديا، تحوز فيه الشخصية البطولة، بينما تلعب الشخصيات الأخرى دورا إسناديا وهي تشاركها السرد. ولن تكون الشخصية رئيسة مؤدية لدور البطولة؛ إلا إذا تحلت بالفضائل وناصرت الخير وعادت الشر وحاربته، مدافعة عن الحق ومناهضة الباطل، تيمنا بشخصيات القصة القرآنية، التي تدفعها دماثة أخلاقها وعلو شأنها وسمو نفسها وبراءة عملها إلى الانتصار والغلبة في النهاية، محققة أهدافها وواصلة إلى مراميها. وكذلك كانت شخصيات الأنبياء إبراهيم وموسى وعيسى ويوسف ويحيى وزكريا ويونس وغيرهم.
هذا على مستوى الشخصية، أما على مستوى الحبك؛ فإن السارد القديم كان في ما قبل الإسلام قد عرف كيف يسرد خيوط الحدث بطريقة تجعل التقديم استهلالا والعرض نموا والنهاية تحصيلا وخاتمة، لكن الذي استلهمه من القصة القرآنية شيء آخر، إضافه إلى ما عنده من خبرة سردية مدعما بها مرجعياته القصصية، وأعني بذلك الكيفية التي تحيل الخيوط إلى امتداد طولي يماشي الزمن التاريخي من ناحية، ويعطي من ناحية أخرى للحدث امتدادا ذا سعة عرضية لزمن افتراضي قد يمطه وقد يقلصه بحسب الحاجة.
وبهذا تتحرر الأفعال السردية من الحكائية التي تمهر الحدث بمتن تاريخي، متجهة صوب بنائيته كمبنى زماني يعبر بفنية الحكاية إلى فنية القص الذي أهم أعمدته اعتماد السببية موئلا يسمح للزمان بالمط والشد، استرجاعا واستباقا توسيعا وتقليصا. ويتماشى هذه الامتطاط وذلك الشد مماشاة أفقية/ عمودية في تحبيك الأحداث بتداخل وتماه. ومن دون ذلك تكون نتيجة النسج التخلخل والضعة حيث لا منعة ولا تماسك.
٭ كاتبة عراقية
موضوع شيِّقٌ وشاقٌّ. سبق أن اشتغلتُ على كتاب الأغاني [ انظر كتاب الهوية والخطاب: التلقي في سير شعراء الجاهلية ـ رشيد نظيف ـ دار رؤية ـ- القاهرة 2018 ]، فوجد في سروده آثار القرآن الكريم ؛ بل إن للسيرة النبوية كذلك أثارا واضحة على هذه المتون.
I always learn new things when I read Nadia’s columns. I will look for her publications, outstanding writer.
في كتابي الصادر بدمشق الشام في عام 2007 والموسوم ب : ( فنّ السيناريو في قصص القرآن ) تناولت القصّة القرآنيّة برؤية جديدة…
وأنها تتضمن فنّ السيناريو ( الوصف والحوارمعًا ) قبل أنْ يعرفه أصحاب الصنعة في العصر الحديث.وقدّمت نماذج تطبيقيّة على ذلك
في قصص الأنبياء الكرام مثل : يوسف وموسى وسليمان…في 256 صفحة من الحجم الكبير.وأهمّ فصول الكتاب : شخصيّة النصّ القصصيّ في القرآن / سيناريو القصص القرآنيّ / بطل القصّة في القرآن / الحوارفي قصص القرآن / قصص القرآن وألف ليلة وليلة.وووو
شكرًا للدكتورة نادية هناوي على المقال الجميل.
من وجهة نظري (وبعد 28 عام في العمل المُتخصّص في مجال يجمع ويكامل ما بين اللغة والإنسان والآلة) إشكالية الضبابية اللغوية التي لاحظتها بين أهل علم الكلام، وأهل علم اللغة، وأهل علم التدوين اللغوي، يختصرها عنوان (القص القرآنيّ وعائدية السَّرد العربيّ إليه) المثال الذي نشرته (نادية هناوي) في جريدة القدس العربي، والسؤال الأهم الذي يتبع ذلك، هو لماذا؟!
لأن من وجهة نظري هناك فرق شاسع ما بين لغة القرآن، واللسان العربي، خصوصاً وأن اللغة تمثل مهنة، بينما اللسان يمثل مجتمع،
ودليلي على هناك قراءات كثيرة لنص القرآن،
ولكن أبو الأسود الدوؤلي والخليل بن أحمد الفراهيدي، اخترعوا لغة تدوين، بعبقرية قل نظير لها، للغة كما تُنطق تُكتب، ووزن للكلمة والشعر يوضح النغمة الموسيقية، وقاموس لمعنى المعاني (كتاب العين).