القضاء العراقي: التسييس والسلطة المطلقة!

يؤكد مونتسكيو في كتابه «روح القوانين» الصادر عام 1748 مبدأ الفصل بين السلطات Separation of powers الثلاثة: التشريعية، والتنفيذية، والقضائية، وضمان استقلالية كل منها عن الأخرى كون هذا المبدأ الضمانة الحقيقية للحفاظ على استمرار أسس الدولة الحديثة، والحريات العامة، وأن احتكار أي من هذه السلطات للسلطة، يهدد بإحلال الاستبداد والطغيان محل القانون. وقد صار مبدأ الفصل هذا مقدمة ضرورية لنشأة الدولة الحديثة، وأحد أهم المبادئ الدستورية والأساس الذي تقوم عليه النظم الديمقراطية الحديثة.
هذا الفصل لا يعني مطلقا فصلا تاما بين هذه السلطات، يتيح لكل منها أن تشكل إقطاعية مستقلة دون الأخرى، كما فهمته الطبقة السياسية العراقية! بل يعني التوزيع المتوازن لسلطة الدولة التي تمثل وحدة لا تتجزأ بين هذه السلطات الثلاثة تبعا لوظيفة كل منها، وتفعيل الرقابة المتبادلة بينها: Power should be a check to power، ويتطلب ذلك، بداية، احترام كل سلطة لاختصاصاتها التي حددها الدستور.
ولقد ظلت فكرة الفصل بين السلطات مغيبة في الممارسة السياسية العراقية على مدى تاريخه الحديث، وإذا كان القانون الأساس لعام 1925 قد حاول الاقتراب من هذا المفهوم دون النص عليه بشكل صريح، فإن الدساتير الجمهورية بداية من العام 1958 قد أسقطت هذا المفهوم تماما سواء من خلال عدم ذكره في الدساتير المؤقتة المتتالية )1958، 1964، 1968، 1970(، أو من خلال الممارسة السياسية التي شهدت احتكارا أحاديا للسلطات بشكل كامل. ومع ذلك، حرصت الدساتير العراقية جميعها على النص على «استقلالية القضاء». ولم تكن، رغم ذلك، فكرة الفصل بين السلطات، ومعها مفهوم الاستقلالية، واضحة في ذهن الطبقة السياسية، ففي 14/5/1963، أي بعد شهرين من تولي القوميين والبعثيين السلطة في العراق، صدر القانون رقم 26 الخاص بـ «السلطة القضائية» وقد جاء في الأسباب الموجبة لهذا القانون أنه «من أهم المبادئ الأساسية التي أرست كيانها ثورة 14 رمضان المبارك، مبدأ سلطان القضاء وصيانة استقلاله وهذا لا يتم إلا بإصدار التشريعات الحديثة التي تكفل ذلك» لكنّ أحد مواد القانون نصت بشكل صريح على تدخل السلطة التنفيذية في أعلى مجلس في السلطة القضائية، جاء في القانون أنه في حال غياب بعض أعضاء مجلس القضاء « للوزير أن يعين أعضاء احتياطيين من كبار موظفي وزارة العدل وحكام محكمة التمييز ليقوموا مقام الغائبين» )المادة 28/أ).
وربما كان قانون وزارة العدل رقم 101 لسنة 1977، هو الأكثر تعبيرا عن رؤية الطبقة السياسية العراقية لسلطة القضاء، فهذا القانون عدّل عبارة «مجلس القضاء» الوارد في قانون السلطة القضائية السابق، إلى عبارة «مجلس العدل» ليكون برئاسة وزير العدل، وبدا واضحا منذ البداية أن الحديث عن استقلال القضاء في العراق لم يكن سوى خطاب متعال لا علاقة له بما يحدث على الأرض! كما نص القانون على أن: «تتولى وزارة العدل الإشراف على القضاء وأجهزة العدل الأخرى» )المادة 1/أولا.( وكان ذلك المانفيستو الأخير لمقولة استقلال القضاء.

السذاجة التي تحكم صياغة القوانين في العراق اليوم جعلت القضاء محصّنا من أي مراقبة أو مساءلة وهو ما حوّل السلطة القضائية إلى إقطاعية بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى

المفارقة أن الاحتلال الأمريكي للعراق هو الذي فرض مبدأ الفصل بين السلطات، بشكل صريح، في قانون إدارة الدولة المؤقت الصادر في مارس/آذار 2004، الذي نص على أن نظام الحكم الاتحادي في العراق يقوم على «الفصل بين السلطات» )المادة 4(. وقد اعتمد الدستور العراقي لسنة 2005 هذا المبدأ؛ فقد حدد نظام الحكم بأنه نظام نيابي (برلماني) ديمقراطي (المادة 1). وحدد طبيعة السلطات فيه بأنها: «السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، تمارس اختصاصاتها ومهماتها على أساس مبدأ الفصل بين السلطات» (المادة 47).
وفي السياق نفسه جاءت النصوص الدستورية التالية المتعلقة باستقلالية القضاء:
ـ قانون إدارة الدولة المؤقت 2004: «القضاء مستقل، ولا يُدار بأي شكل من الأشكال من السلطة التنفيذية وبضمنها وزارة العدل. ويتمتع القضاء بالصلاحية التامة حصراً لتقرير براءة المتهم أو إدانته وفقاً للقانون من دون تدخل السلطتين التشريعية أو التنفيذية»(المادة 43/أ).
ـ دستور 2005: « القضاء مستقل لا سلطان عليه لغير القانون» )المادة 19/أ.)
لكن الأمر هذه المرة، أيضا، لم يكن سوى إعادة إنتاج للعلاقة التي حكمت مؤسسات العراق منذ بداية تأسيسه عام 1921. أي أن نكون بإزاء ممارسة سياسية تتحرك بعيدا عن النصوص الدستورية والقانونية التي يفترض أنها الوحيدة الحاكمة. وقد فشل النظام السياسي مرة أخرى في ضمان استقلال القضاء، تماما كما فشل القضاء نفسه في ضمان استقلاليته وعدم خضوعه لإدارة الفاعلين السياسيين وعلاقات القوة!
واليوم تُسوّق فكرة خيالية حول أن القضاء هو سلطة مستقلة تماما لا يحق لأي سلطة أخرى التدخل في شؤونها، وهي لا تعدو كونها «حجة» تستخدم دائما للتهرب من الرد على الانتقادات التي تطال القضاء العراقي!
إن السذاجة التي حكمت صياغة الدستور العراقي، والسذاجة التي تحكم صياغة القوانين في العراق اليوم، جعلت القضاء محصّنا من أي مراقبة أو مساءلة، وهو ما حوّل السلطة القضائية إلى إقطاعية بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، وأصبح مجلس القضاء الأعلى ذا سلطة مطلقة غير خاضع لأي رقابة أو مساءلة! وأصبحت قرارات المحكمة الاتحادية العليا باتة وملزمة للسلطات كافة، مهما اشتطت، وتناقضت، ومهما كانت مخالفة لصريح أحكام الدستور والقانون، والأمثلة على القرارات المسيسة كثيرة وموثقة!
السلطة المطلقة مفسدة مطلقة، وعلى الجميع وعيُ هذه البديهية؛ من خلال إعادة هيكلة السلطة القضائية بأكمها، والتطبيق الحرفي لما ورد في المادة (89) من الدستور التي تتحدث عن سلطة قضائية تتكون من 5 مؤسسات قضائية منفصلة هي: مجلس القضاء الأعلى، والمحكمة الاتحادية العليا، ومحكمة التمييز الاتحادية وجهاز الادعاء العام، وهيئة الأشراف القضائي، فضلا عن المحاكم الاتحادية الأخرى، لضمان عدم تعارض المصالح، وضمان المساءلة للقضاء عندما يخطئ أو يرتكب الخطايا، وإلا لن تقوم للدولة قائمة!

كاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    لا يوجد قضاء مستقل بالدول العربية (الدستورية) !
    وكأن هذه الدول بالأساس مستقلة !!
    ولا حول ولا قوة الا بالله

إشترك في قائمتنا البريدية