في روايةٍ تتخلّلها نوباتٌ جنونيّة من قبل الكاتب للوصول بالقارئ إلى مرحلة تاريخية معيّنة مع فشلٍ كبير، ينتقل بنا أورهان باموق، إلى كنف حكاية روتينية وقعت في القرن السابع عشر الميلادي، عن سفينة ايطالية تقع في أسر العثمانيين الأتراك، وكان على متنها عالمٌ إيطاليٌّ يؤخذ أسيرا كغيره من الركّاب، إلى شواطئ إسطنبول وهو متشبّثٌ بكتبه التي حملها معه إلى هناك.
يحاول أن ينفد من ورطته بادّعائه مهنة الطب الذي قرأ فيه كثيرا، ويقوم بلفت الأنظار إليه، والقيام بتطبيب الكثيرين من المرضى والنجاح في مدّهم بالشفاء، فيعرض عليه السلطان أن يمنحه حريّته مقابل أن يعتنق الدين الإسلامي فيرفض، ويثير إعجاب السلطان به ولا يقتله، ولكنه يمنحه هدية إلى شخصٍ آخر، فيصبح أسيرا عند رجل يدعى «الأستاذ»، يشبهه حدّ العجب ويتحكّم فيه وبحريّته ويغوص الإثنان معا في سيكولوجية ترابطية نفسية، ويقومان بالتحليل العلمي والتنجيم الفلكي لإرضاء السلطان الصغير، وينهمكان في التوصل إلى تجاربٍ جديدة عن مرضٍ مباغت يداهم المدينة ويصيب أهلها بوفيّات كثيرة، وينجحان في المهمة.
فشل أورهان باموق في النفخ في بوق التنوير، فلم يبرز من الحضارة ما يشير إليها بالبنان، ولم يفتح أبوابا مغلقة للتاريخ أو يسرد وقائع مندسّة تحت إبطه وقد تستّر عليها الزمن.
يمعن بطل الرواية الإيطالي الغربي في التفكير بشبيهه العربي أو «الأستاذ»، ويجده مرآة لذاته ويتعارك معه في مواجهة للذات وإظهار انعكاسات تحليلية لماضي الأول والثاني، وتأطير المساوئ في ترسيبٍ جذري للروح وتحوّلاتها. هنا يبرز مرض الفصام أو السكيتسوفرينيا جليّا للبطل رغم محاولة الكاتب اللعب على وتر التشويق للقارئ ليتخيّل ما يمكن أن تكون الحقيقة، ولكنها بارزة كعين الشمس تطوف بالإطالة والحشو والتأويل والتفلسف اللامجدي. فالأسير الإيطالي هو مرآة للشبيه التركي أو بالأحرى هو نفسه، والتوهّم الذي يتكبّده يبقى لغزه الوحيد بأن لا نعرف ما إن كان الشخص المتخيّل هو الإيطالي أم التركي.
الحضارتان تتنافران وتتجاذبان كالمد والجزر في تواطئٍ صامت وتهافتٍ للحرية واكتساب للمجازفة. وقد تنطبق على تصوّرات العالم النفسي «ألفرد» بتقسيم شخصية الإنسان إلى بناءات متصارعة تتجزّأ من خلال النزعة التطورية للإيفاء بعملية النمو.
توريط القارئ في رواية تتأرجح بين التاريخية والنفسية بحشرجة بارزة في عنق الأحداث، تسوقه إلى الملل والشعور بأنّ إدراك النهاية من المحال أن يأتي، وأنّ الفلسفة التي يقتبس منها الكاتب أورهان تدرّجها من تأثره الجلي بالكاتب الإسباني غابرييل غارثا ماركيز في روايته «مئة عام من العزلة» الذي يوجز فيه الأحداث في قالبٍ مختصر سلس، يحوي من الفلسفة الغيرية أكثر منها الذاتية، ولكن أورهان فشل في تصويب هدفه وتقليد غيره، فضمّت روايته الكثير من التبريرات والتحليلات اللامنطقية، والتهكّم على النفس والتجويف الميلودرامي الذي يرجع صدى الحبكة فارغا هشّا.
فشل الروائي أورهان في النفخ في بوق التنوير الحضاري، فلم يبرز من الحضارة ما يشير إليها بالبنان، ولم يفتح أبوابا مغلقة للتاريخ أو يسرد وقائع مندسّة تحت إبطه وقد تستّر عليها الزمن. وعندما تنفرط عقدة الحبكة يصبح السرد مشعّثا متثاقل الخطى، متلهّفا لتصويرٍ دراماتيكي اجتماعي نفسي يتخبّط بالإطالة التي لا تخدم الكاتب أو قارئه، بل تحكم السيطرة على عنصر الرتابة التي تتّسم بالتكرار والمجازفة أملا في التوصّل للإثارة والجاذبية النفسية.
أورهان باموق كاتبٌ تركي لم يتقن التجذيف في محيط وطنه التاريخي تركيا، أو التنويه عن حضارة غربية لإيطاليا، وبقي واقفا بين هرمين، أحدهما غربي وثانيهما شرقي متأهّبا للإبداع من غير أن يطاله، متوهّما بأنه بلغ مستوى الأدب العالمي الراقي ليصاب بمرض الفصام الأدبي النفسي، مثلما ورّط به بطل روايته، وورّط به قارئه فهُزم على قارعة الانتظار لنهاية لم تأتِ، ولم يتسنّ لها أن تنبثق في دوحٍ شائك مشبّع بالمحاولات الفلسفية والتلهّف الجم والتكلّف الجانح لإبراز الذات أكثر من الإبداع نفسه.
٭ كاتبة لبنانية