أعاد الفيلسوف الدنماركي كيركجارد، كلمة القلق إلى القاموس الفلسفي، مميزاً بين الخوف تجاه الكائنات في العالم والقلق تجاه نفسه.
وكان هدفه الدلالة عما يشعر به الإنسان عندما يدرك وضعه في العالم. كما يسعى إلى التفكير في الإنسان وفي تجربته الشخصية.
أما جان بول سارتر فسيتولى الإجابة على الأسئلة التي اقترحها كيركجارد. السؤال الرئيسي للفلسفة في رأيه هو الالتزام والمسؤولية تجاه الحرية. حيث ميز بين الخوف والقلق؛ الخوف مرتبط بالعمل ويتعلق بخطر حالي، أما القلق فهو ناجم عن خوف محتمل.
لقد قام الفيلسوفان بتحديث كلمة يونانية قديمة هي ankho أي أن يختنق الإنسان في مكان ضيق، وقاما بتغيير معناها لجعلها كلمة فلسفية حديثة.
دخلت كلمة قلق لمعناها الجديد إلى القاموس العربي عن طريق الوجوديين، ولاقت المصير نفسه الذي لاقته كلمة وجودية من سوء ترجمة وسوء فهم، ولكن ليس هذا هو موضوعنا اليوم.
موضوعنا هو قراءة كلمة قلق في سياقها اللبناني.
ماذا يعني القلق اللبناني؟
أنا لا أبحث عن تميز لبناني على غرار فلاسفة القومية اللبنانية، لكنني أحاول أن أبحث عن سر ودلالات هذا القلق الجماعي الذي يضرب مجتمعنا.
إن اختلاف القلق اللبناني عن غيره ناجم عن اختلاف الوضع اللبناني. وهناك قلقان كبيران:
القلق الأول هو قلق الحرب الأهلية واحتمالات تجددها والابتزاز الذي تستخدمه الطبقة الحاكمة لإخافتنا كل يوم بها.
قلق الحرب الأهلية تحول إلى مزيج من القلق والتروما، أي أنه لا يتوقف بل يتجدد بشكل يومي.
القلق الثاني هو قلق الحرب مع إسرائيل، فنحن نعيش وسط تهديد إسرائيلي دائم بالحرب منذ عام 2006. وهي أيضاً حرب لا تتوقف بل تكبر وتتضخم وتأخذنا إلى مجاهل القلق، وهذا ما يشهده الجنوب اللبناني بقُراه المختلفة.
هذان هما القلقان الكبيران، لكن هذا لا يعني أن بقية عناصر القلق ليست كبيرة.
هناك القلق الذي نجم عن أزمة المصارف، الذي أودى بأموال المودعين وذرّها في الريح وحول الطبقة الوسطى إلى طبقة دُنيا. وهو قلق لم يتوقف ولن يتوقف لأن المصارف أفلست، وهي تكذب على الناس في قولها إنها ستعيد الأموال إلى أصحابها.
القلق الثالث هو الغلاء الذي نعيشه كل يوم؛ ففي كل يوم نكتشف أن الأشياء ترقص على ميزان أسعار لا ضوابط له، فالغلاء ينهش الناس ويضعهم في مواجهة مخيفة مع واقعهم لأنه يجبرهم على العيش على حافة الجوع وعلى حافة عجز شراء متطلبات الحياة لعائلاتهم.
القلق الرابع هو قلق المدارس والامتحانات الرسمية، وهو قلق يومي لأنك أيضاً هنا لا تعرف هل ستجري الامتحانات لأولادك أم لا؟ وماذا سيحل بهم وكيف ستنقذهم من هذه الورطة؟ هنا أتكلم عن طلاب المدارس الرسمية الذين يعانون الويل ليتعلموا وهم يشعرون أنهم على حافة الجهل.
القلق الخامس هو الهجرة. فحمى الهجرة تضرب المجتمع اللبناني وتدفع الناس إلى التفكير بها بشكل دائم، سواء كانوا يملكون المال أو لا يملكونه، سواء كانوا يملكون كفاءات الهجرة أو كانوا لا يملكونها. نحن في وضع المهاجر الدائم، على رأي الشاعر جورج شحادة.
نحن مهاجرون وعاجزون عن إيقاف هذا النزف، ولكننا أيضاً بتنا عاجزين عن الهجرة، وهذا لم يسبق له أن حصل للمجتمع اللبناني. عادة الهجرة هي المنفذ الوحيد لمجتمعنا وهي المخرج الوحيد من أزماتنا. الآن أُقفل هذا المدخل وهذا المخرج، وبتنا عالقين حيث نحن.
الحل الذي اقترحه علينا كيركجارد هو الإيمان، وهو حل فردي لا يجيب على أسئلة القلق اللبناني، فالقلق اللبناني معلق في مكان آخر. انتقل بنا من التمسك بالإيمان إلى تحويل الدين إلى أداة حرب أهلية وإلى تدمير بُنانا الاجتماعية بدل أن يكون، كما اقترح الفيلسوف الدنماركي، أساساً لإعادة بناء الثقة بالحياة والمجتمع.
أما الاقتراح الذي قدمه لنا جان بول سارتر، فهو الالتزام. والالتزام في الحالة اللبنانية صار عبئاً على اللبنانيين؛ يلتزمون بماذا؟ وكيف؟ ولماذا؟ وما الهدف؟
يلتزمون وهم على حافة الجنون من هذا القلق الدائم!
القلق من المكان، فلبنان بالنسبة للجيل الجديد هو مجرد فكرة لم تتحقق. وحين يتحدثون عن لبنان بلغة الحنين والنوستالجيا فيكونون يقلدون أهلهم.
فلبنان فكرة غائمة في الضباب، جميلة رائعة، لكنها في الواقع اليومي كارثة على المقيمين فيها.