بعد أربعين عاما من «العمل المشترك» ما يزال مجلس التعاون الخليجي يبحث عن توافق داخلي بقي مفقودا طوال هذه الحقبة، بل ربما ازداد تصدعه الداخلي عما كان عليه قبل قرار تأسيس المجلس في عام 1981.
وما تزال الأطراف الثلاثة التي كانت صراعاتها آنذاك دافعا للتأسيس حاضرة بالقوة نفسها: الولايات المتحدة، إيران والدول الست، مع تغير طفيف في التحالفات. ولكن المشكلة تفاقمت الآن بدخول طرف رابع أشد خطرا وهو الكيان الإسرائيلي. وإذا كان مروجو التطبيع يرون في هذا العامل عنصر قوة للمجلس أو يتخيلون انه «رجّح» الكفة ضد إيران، فان معارضي ذلك يرون في هذا التطور واحدا من أسباب التصدع الداخلي كنتيجة لم تكون محسوبة. فالحديث عن هذا التصدع لم يعد محصورا بالخلاف الذي افتعله التحالف السعودي- الإماراتي مع دولة قطر قبل ثلاثة اعوام، بل اصبح يفعل فعله في التحالف المذكور نفسه. فقد اعتقد حكام الإمارات أن تطبيعهم مع «إسرائيل» سيرجّح كفتهم ليس في مقابل إيران فحسب بل في مقابل السعودية أيضا. فكانت النتيجة توسع رقعة التصدع داخل دول المجلس نفسه. ومن المؤكد أن الجهود السعودية المبذولة لترطيب العلاقات مع قطر ستؤدي إلى تخفيف حدة الخلاف الذي بلغ ذروته في العام 2018 بفرض حصار غير مسبوق على قطر برا وبحرا وجوا، ولكنه سيساهم كذلك في استعصاء الفتق على الراقع. ولم يعد سرا القول إن التوسع الإماراتي الإقليمي من بين العوامل التي دفعت السعودية لابتلاع كبريائها باتخاذ خطوات حثيثة نحو قطر التي أصبحت في موقع أقوى مما كانت فيه قبل الحصار. فقد انتهجت سياسات للتكيف مع حالة الحصار المفروضة عليها، وأقامت علاقات غير مسبوقة مع أكبر قوتين اقليميتين: تركيا وإيران. هذا التحالف غير المحسوب وفر بديلا داعما للقضية الفلسطينية خففت من آثار التطبيع الذي تصدرته الإمارات والبحرين. ومن أُولى نتائج ذلك إحجام السعودية عن التطبيع المعلن مع «إسرائيل» بعد أن أدركت أن سياساتها الهادفة لزعامة العالم العربي ستتضرر كثيرا فيما لو راهنت على التطبيع كبديل لما يسمى «المبادرة العربية» التي طرحتها الرياض وتبنتها القمة العربية في بيروت في العام 2002.
هل أصبح الميدان السياسي الخليجي لعبة شطرنج يسعى كل فريق فيها لاعادة تموضعه خارج ما كان مألوفا من تحالفات؟ هل أدركت السعودية أخيرا خطأ سياساتها التي انتهجتها في السنوات الخمس الماضية وأنها أضعفت حظوظها في قيادة العالم العربي؟ أم أن اختلاط الأوراق المذهل هذه الأيام يعتبر إحدى نتائج السقوط المروّع لرئاسة ترامب التي قلبت الموازين وغيرت الثوابت حتى داخل امريكا نفسها؟ لقد راهنت قوى التطبيع الخليجية على حتمية فوز ترامب بدورة رئاسية ثانية، وأن التطبيع سيوفر لها موقعا متميزا في واشنطن التي كانت مهووسة بمسائل ثلاث على صعيد علاقاتها الخارجية: التصدي لإيران ومضاعفة الدعم السياسي والعسكري للكيان الإسرائيلي والاستعداد لمواجهة محتومة مع الصين. وجاءت نتيجة الانتخابات الاخيرة لتقلب الواقع، ولتحدث اضطرابا نفسيا وسياسيا لدى الذين راهنوا على ترامب. وكان تحالف قوى الثورة المضادة (السعودية والإمارات ومصر والبحرين وإسرائيل) من أول المتضررين من فوز جو بايدن في الانتخابات. هذا الضرر ليس بسبب ما قد يقوم به الرئيس الجديد من مبادرات فحسب، بل لتوقف قطار ترامب في منتصف الطريق قبل إكمال المشوار. ويمكن اعتبار الأسابيع الأربعة الأخيرة من أصعب الفترات من وجهة نظر تحالف قوى الثورة المضادة. فقد خلقت بلبلة واضطرابا في أوساطها، وكان من أولى نتائج ذلك فشل اجتماع «نيوم» مطلع هذا الشهر الذي ضم محمد بن سلمان ونتنياهو وبومبيو. فقد أدرك الجانب السعودي ضرورة استخدام المكابح لمنع القطار من مواصلة المشوار الذي كان سيسقط حتما بانتهاء السكة الحديدية التي يسير عليها.
هل أصبح الميدان السياسي الخليجي لعبة شطرنج يسعى كل فريق فيها لإعادة تموضعه خارج ما كان مألوفا من تحالفات؟
في بداية الأمر كانت قطر مضطربة جدا من قرار المقاطعة بعد رفضها الشروط الثلاثة عشر التي طرحها التحالف السعودي – الإماراتي لإنهائها. وضاعف من قلقها الخشية من نجاح ذلك التحالف في التأثير على قرار استضافة قطر دورة كأس العالم في العام 2022 بعد أن بذلت جهودا مضنية لكسبها أولا ثم لتوفير مستلزماتها من ملاعب ومنشآت مدنية وتجارية ثانيا. ولكن حكام الدوحة تعلموا من تجاربهم السابقة فرفضوا كل الشروط وتحركوا كالبرق لحماية موقفهم. وبموازاة ذلك تحرك مناوئوها خارج أطر الحكمة ورجحان العقل. وكانت حرب اليمن أولى ساحات تراجعهم بعد ان اختلفت السعودية والإمارات بشأنها. وانزعجت السعودية كثيرا عندما قررت الإمارات سحب قواتها وإسناد المهمات العسكرية لميليشيات مسلحة في الجنوب، واختلف الطرفان حول طرق تقسيم اليمن ونصيب كل منهما من كعكته. وتواصلت التراجعات بتمدد الإمارات في السودان وليبيا، وظهور نزعة لدى حكامها للدخول في صراعات مع قطر التي توسع نفوذها وعلاقاتها بهدوء. يضاف إلى ذلك أن واشنطن رأت في التصدع الخليجي معوقا لسياساتها في المنطقة. صحيح أنها استطاعت دفع الإمارات والبحرين للتطبيع مع «إسرائيل» إلا أن سياستها تجاه إيران لم تنجح كثيرا بسبب الخلافات الخليجية التي أفقدتها موقفا متماسكا ضد طهران. فكما أن إيران وفرت بوابة قطرية للعالم بفتح مجالها الجوي بعد أن فرضت السعودية والبحرين حظرا على طيرانها، فإن قطر وفرت لإيران كذلك اختراقا مهما للساحة الخليجية بالتناغم مع مواقف الكويت وعُمان غير المعادية لإيران. وفيما كان التطبيع الهم الأكبر لحكام الإمارات والبحرين، كانت الكويت تقوم بمهمة كبرى لإصلاح البيت الخليجي وإنهاء الحصار المفروض على قطر. وبدلا من أن تتبوأ السعودية هذا الموقع، أصبحت الكويت هي المتصدية لتحقيق التوافق الخليجي بعد 40 عاما من طرح ورقتها لتأسيس مجلس التعاون، وهي الورقة التي اعتمدت أساسا لذلك.
إلى أين يسير مجلس التعاون اليوم؟ الواضح أن المبادرة الكويتية لم تحقق المصالحة المطلوبة برغم الترويج الإعلامي الذي صاحبها. فقد شعرت قطر بما يمكن وصفه بـ «التحرر» من ضغوط الشقيقة الكبرى والإمارات بشكل خاص. ومن أسباب ذلك: أولا أن قطر لم تعد تشعر بالحاجة لذلك في الوقت الحاضر، فلا هي تعاني من أزمات اقتصادية ولا من حصار سياسي ولا من قلة الاصدقاء، ثانيا: رفضت الدوحة أغلب الشروط التي حاول التحالف السعودي ـ الإماراتي فرضها بأساليب استهجنتها القيادة القطرية ورفضتها حينها، وما يزال موقفها ثابتا إزاءها. فهي ترفض إغلاق قناة «الجزيرة» أو تغيير علاقاتها مع كل من تركيا وإيران، ولا تقبل بإملاء سياسات عليها إزاء جماعة «الإخوان المسلمون». وكانت السعودية والإمارات قد صنفتا الجماعة ضمن المجموعات الإرهابية على أمل فرض ذلك التصنيف عالميا وإجبار الدوحة على تغيير موقفها، ولكنهما فشلتا في ذلك. وتبذل الإمارات بشكل خاص جهودا مضاعفة مدعومة بالأموال لإقناع بعض الدول الأوروبية بذلك، ولكنها فشلت في تحقيق شيء يذكر. ثالثا: إن قطر تهتم بالعلاقة مع السعودية، ولكنها لا تجد نفسها، في الوقت الحاضر، مضطرة للتقارب مع الإمارات أو البحرين، خصوصا أنهما فجرتا في الخصومة وهرعتا للاستعانة بالإسرائيليين لتثبيت موقفهما، وحرضتا جهات كثيرة على الدوحة.
إزاء هذه الحقائق تعثرت الجهود الكويتية لتحقيق المصالحة، الأمر الذي ألقى بظلاله على مشروع القمة الخليجية الحادية والأربعين التي جرت العادة منذ تأسيس المجلس على إقامتها في شهر كانون الأول- ديسمبر من كل عام. ووفقا لمبدأ التناوب لاستضافة القمة، فقد كان المقرر عقدها في البحرين، ولكن قطر لا تريد أن تكافئ حكومة ذلك البلد بعد أدائها السلبي إزاء قطر. ولا تنسى الدوحة تغريدات وزير خارجية البحرين السابق، خالد بن أحمد آل خليفة، التي حرض فيها على طرد قطر من مجلس التعاون. ولذلك يتوقع تأجيل عقد القمة حتى الأسبوع الأول من العام الجديد، لتقام في الرياض بدلا من المنامة.
كاتب بحريني
عندما تسلم البلاد للأولاد الذي لا يقيمون اي اعتبار لقضايا عربية وخليجية فإن مصيرهم بالتأكيد للسقوط مع أول هزة ربيعية.