أنهى رجب طيب اردوغان زيارته الثالثة له لمصر أول أمس الأربعاء، والتي تعتبر الأولى له كرئيس لتركيا (كان رئيسا للوزراء خلال زيارتيه في عامي 2011 و2012 والتقى خلالهما برئيس المجلس العسكري حينها، المشير محمد حسن طنطاوي، ثم بالرئيس الأسبق المنتخب محمد مرسي).
سبق للرئيس التركي أن التقى بنظيره المصري عبد الفتاح السيسي بشكل مقتضب، مرة في قطر أثناء افتتاح كأس العالم لكرة القدم عام 2022، وأخرى على هامش فعاليات مؤتمر قمة العشرين في الهند في أيلول/ سبتمبر الماضي، غير أن الزيارة الحالية تعتبر فارقة، لأنها كانت القمة الأولى بين اردوغان والسيسي في مصر، وهو ما يجعلها إعلانا عن الاعتراف التركي بنظام الحكم المصري الحالي بعد صراع سياسي مرير بين النظامين إثر إعادة الجيش المصري سيطرته على الحكم عام 2013، وإطاحته بالرئيس الأسبق محمد مرسي، وهو صراع ما زالت تداعياته فاعلة في عدة ملفّات.
فتح الخلاف السابق بين أنقرة والقاهرة الباب لمواجهات استراتيجية في العديد من القضايا، فدعمت مصر محاولات الجنرال خليفة حفتر المتعددة للسيطرة على ليبيا، فيما أدى الدعم العسكري التركي لحكومة فايز السراج لإفشال تلك المحاولات، وتواجه البلدان أيضا في محورين متعاكسين في قضايا الغاز في البحر الأبيض المتوسط، وفي الصراعات السياسية والعسكرية على امتداد الجغرافيا العربية، كما هو الحال في تونس والسودان، كما أن لديهما تشابكات ومصالح معقدة في العلاقات مع أثيوبيا والصومال والإمارات والسعودية وقطر والجزائر وغيرها.
حصول القمة في ظل الحرب الإسرائيلية على غزة، دفع بالقضية الفلسطينية إلى صدارة النقاش بين الحكومتين، وقد أشار اردوغان إلى ذلك في خطاب ألقاه بعد ترؤسه اجتماعا للحكومة وقال فيه إن الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة سيتصدر جدول محادثاته مع نظيره المصري عبد الفتاح السيسي، كما في تصريحات أدلى بها بعد مغادرته مصر.
يفتح حصول تقارب تركي ـ مصري ممكن في الموضوع الفلسطيني قابلية لدى قيادتي القاهرة وأنقرة لإدراك الخلل الكبير الناتج عن عدم التنسيق بين البلدين الكبيرين، ولتأثير الصراع بينهما على قدرتهما على تغيير وازن في المعادلات الإقليمية، سواء في موضوع العدوان الهمجي على الفلسطينيين، أو في ملفات أخرى تسمح بإمكانيات تعاون وتقارب وتنسيق.
تمتلك الدولتان أقوى جيشَين في المنطقة، وتمتاز تركيا بالصناعات العسكرية المتقدمة، الأمر الذي جعلها الدولة الثالثة على مستوى العالم في تصنيع الطائرات المسيرة بعد الولايات المتحدة والصين، وكان طبيعيا، في هذا السياق، إعلان أنقرة تزويد الجيش المصري بطائرات «بيرقدار» القتالية المسيرة مؤخرا، وعلى الصعيد السياسي تتمتع الدولتان بوجود قوي في عدد من المنظمات الدولية والإقليمية، مثل: حلف الناتو، ومنظمة الدول التركية، والجامعة العربية، والاتحاد الأفريقي.
أظهرت بعض تصريحات المسؤولين الأتراك تفهما للأوضاع الاقتصادية الأصعب لدى الجانب المصري، كما لو كان في ذلك إشارة إلى العامل الذي جعل الموقف الرسمي المصريّ يبدو، وسيطا أكثر منه داعما للفلسطينيين، رغم الخطر الكبير على السيادة المصرية، ورغم فظاظة حكومة بنيامين نتنياهو في إظهار أشكال استهتارها بالحكومة المصرية.
أشارت تصريحات اردوغان إلى تواطؤ الغرب مع حكومة نتنياهو، كما أشارت إلى أن لقاءات القمة شملت نقاش قضايا الدفاع والاقتصاد والطاقة، وهي إشارات تفصح، بشكل ضمني، عن العوائق التي تقف عثرة في طريق تعويض الخلل في العلاقة بين مصر والغرب، كما تظهر لإمكانيات التعاون بين البلدين والتي يمكن أن تدفع المسؤولين المصريين لاتخاذ مواقف أكثر جسارة.
المواقف السياسية، في النهاية، ليست محصلة حسابية للعلاقات مع الدول الكبرى، ولقضايا الاقتصاد، وخصوصا حين يكون الأمن القومي لمصر في خطر، وحين يتعرّض الفلسطينيون لمجازر هائلة.