ما أقسى أن يدفع الصحافي أو الكاتب حياته ثمنًا لقول الحقيقة ولكشف المستور! بيد أن جريمة إسكات الأصوات لم تعد تُطوَى وتُدثَّر بالنسيان، إذ تظل تقضّ مضجع المجرمين الحقيقيين المتوارين خلف السلطة، وتبقى وصمة عار على جبينهم، حتى وإن لم ينالوا العقاب المستحق المقابل لفظاعة الجرم. ومَرَدُّ ذلك إلى الدور الجبّار الذي صارت تقوم به وسائل الاتصال المختلفة، بعدما تطورت أدوات عملها، واتسعت قاعدة تأثيرها في أوساط الجماهير.
الصحافة الحرة اليوم لم تعد تكتفي بنقل الخبر وتغطيته، حينما يتعلق الأمر ـ مثلا ـ بانتهاكات حقوق الإنسان عمومًا وحرية الرأي والتعبير خصوصًا، وإنما أمست تقوم بالتحري والاستقصاء في ملابسات الجرائم وخلفياتها ومَن يقف وراءها، محققة ـ أحيانًا ـ قصب السبق على عمليات البحث الأمني أو القضائي؛ بل قد يقع طيّ ملفات ما في ردهات المحاكم، لكنّ الإعلام يُصرّ على إعادة فتحها، لتسليط الضوء على الزوايا المعتمة فيها، والبحث عن أجوبة للأسئلة التي لم يُحسَم فيها بعد.
القناة الألمانية (دويتشه فيله) في صيغتها العربية قدّمت مثالا حيًّا لهذا العمل، حيث بثّتْ ـ هذا الأسبوع ـ شريطا وثائقيا حول قصّة الصحافية المالطية “دافني كاروانا غاليزيا” التي اشتُهرت بملفات فضح الفساد في بلادها، وذلك بمناسبة الذكرى الأولى لاغتيالها بواسطة سيارة مفخخة قرب منزلها.
والواقع أن هذا الشريط يعود في الأصل إلى القناة الفرنسية الثانية التي بثته قبل نحو خمسة شهور، ضمن برنامجها الشهير “مبعوث خاص”، لكن القناة الألمانية ارتأت تقديمه خلال هذه الأيام العصيبة، لعل “الفاهم يفهم” ويستخلص الدروس والعبر، وذلك عملا بالمثل السائر: “إياك أعني وافهمي يا جارة”!
“قصص ممنوعة”
محاولة للإجابة على الأسئلة الحارقة من قبيل: مَن أمر باغتيالها؟ وما التحقيقات الاستقصائية التي كانت تقوم بها أو تلك التي كانت بصدد إنجازها؟ جمعت منظمة “قصص ممنوعة” Forbidden Stories45 صحافيا ينتمون لكبريات المؤسسات الإعلامية من 15 دولة، وذلك في إطار مهمة تلك المنظمة، المتمثلة في متابعة تحقيقات لصحافيين سُجنوا أو قُتلوا. تابع أعضاء المجموعة عمل الصحافية المغتالة “دافني كاروانا غاليزيا” من حيث توقفت، حيث سُمِحَ لهم الولوج إلى محتويات هاتفها وبريدها الإلكتروني والوثائق السرية التي كانت تحتفظ بها، ومن بينها خصوصا تلك المتعلقة بالتلاعبات المالية لمسؤولين من أعلى مستوى. حققت المجموعة في تلك الملفات لمدة خمسة أشهر، متعقبة أيضا أثر الرجال المشتبه بهم في اغتيال “دافني”.
كما تضمن الشريط الوثائقي مقابلات مع زوج الصحافية الراحلة وأبنائها الذين ترعرعوا في بيئة من التوتر المستمر، حيث جرى تسميم كلبهم وقطع رقبة كلب آخر، وكانت “دافني” تتلقى تهديدات متوالية عبر الهاتف، بالإضافة إلى مضايقات من الحزب المسؤول في البلاد (حزب العمل) الذي أطلق عليها أوصافا من نحو: مجنونة، ساحرة، مدوِّنة الكراهية، ملكة النكد… لا لشيء سوى لكون مدونتها الإلكترونية تحظى بمتابعة أكثر من 300 ألف شخص من بين 400 ألف يعيشون في جزيرة مالطا، متفوّقة في ذلك على الصحف التقليدية المحلية. لقد مثلت صوت الحقيقة ومصدرا للمعلومات. كانت جريئة لا تعرف هوادة، هدفها الكشف عن الفساد المالي والاقتصادي في أعلى مستويات الدولة، مثلما يوضح الفيلم.
فريق البرنامج التلفزيوني حصل على آخر تسجيل صوتي لمكالمة كانت “دافني” وجّهتها إلى المجلس الأوربي، حيث اشتكت من التحريض المستمر ضدها، وقالت إن خصومها جعلوها كبش فداء لوطنها، مشيرة إلى أن الكثير من الصحافيين أصبحوا يميلون إلى الصمت نتيجة ما حدث لها. بيد أن الفريق الصحافي الاستقصائي لم يقف عند الأشخاص الثلاثة الذين نفذوا جريمة قتل “دافني”، من منطلق أن فعلهم الشنيع كان بتفويض من آخرين، وإنما طرقوا أبواب مسؤولي الحزب الحاكم في مالطا، لعلهم يعثرون لديهم على الأجوبة. لكن المسؤولين المعنيين، شأن السياسيين في كل مكان وزمان، التفّوا على الحقيقة بالقول: “إنهم يحاربون الأفكار بالأفكار ولا يحاربونها بالرصاص”! الفريق الصحافي حاصر مسؤولين مالطيين وآخرين أوربيين بأسئلة محرجة حول ملفات الفساد المالي التي كانت تعرّيها “دافني”، أيقونة الصحافة (كما لُقّبت جماهيريا)، لكنْ بدون جدوى.
يبقى ثمة سؤال يلح على الذهن: هل يمكن لمنظمة “قصص ممنوعة” أن تفتح ملفات مشابهة في عالمنا العربي؟ إذا حصل ذلك فأكيد أنهم سيدخلون الدائرة دون أن يخرجوا منها، وإن خرجوا فسيخرجون أطرافا متفرقة، يفعل فيها المنشار فعلته الشنيعة سيئة الذكر!
“وشهد شاهد من أهلها”
يبدأ الفيلم بصورة شخص يلعب لعبة “البلياردو”، موجّهًا عصاه إلى كريّات عديدة تتفرق هنا وهناك على الطاولة. ولم يكن ذلك الشخص سوى الكاتب الصحافي الأمريكي الشهير “ستيفن كينزر” الذي يشبه ما تقوم به بلاده باللعب على مساحة طاولة “البلياردو” العالمية والتحكم فيها، من خلال العقوبات الاقتصادية والضغوط العسكرية ومحاولات “شيْطنة” بلدان بعينها أو حكّامها أنفسهم عبر وسائل الإعلام.
في فيلم وثائقي أعادت القناة الروسية الناطقة بالعربية بثّه أخيرا، يتحدث “ستيفن كينزر” عن الطموحات التوسعية للولايات المتحدة الأمريكية عبر السنين، ويتوقف عند بعض المحطات التاريخية الدالة: الإطاحة بملكة هاوي “ليليوكالاني” عام 1893، تدبير الانقلاب على رئيس غواتيمالا “جاكوبو أربينز” عام 1954، مقتل الرئيس الليبي “معمر القذافي” عام 2011.
“وشهد شاهد من أهلها” أن أكبر عيوب السياسة الأمريكية التدخل في باقي الدول وفرض إرادتها على الآخرين، من منطلق الاعتداد بقوتها العسكرية والاقتصادية، وشعورها بكونها محمية بمحيطين عظيمين، وبجانبها دولتان ضعيفتان هما المكسيك وكندا، على حد تعبير “ستيفن كينزر”. غير أنه يستدرك بالقول إن الولايات المتحدة الأمريكية التي اعتادت على تزعم العالم يواجهها تحد قوي، ويضيف: الزعامة لن تبقى دائما، علينا أن نتخلى عن فكرة أننا دائما الأقوياء الوحيدون في العالم، يمكن أن تظهر دول أخرى قوية.
وللدلالة على هذا التجاذب بين مراكز القوى يستعير الكاتب عبارة “فخ ثوكيديدس” التي أُعطيتْ عنوانا للفيلم الوثائقي. و”ثوكيديدس” مؤرخ إغريقي قديم، حذّر من احتمال نشوب حرب خطيرة جدا في حال إذا بقيت قوّة واحدة تتخوف من صعود قوة أخرى. يشرح “كينزر” فكرة الفخ هذه أكثر بالقول: لا تبدأ الحروب عندما يكبر بلد صغير تدريجيا ثم يهاجم بلدا آخر، بل العكس من ذلك، أي عندما يساور القلق بلدا كبيرا عادة فيبدأ هو بالهجوم. لقد لاحظنا ذلك على مر التاريخ، وهذا يشكل خطرا على الولايات المتحدة التي تعوّدت على تزعم العالم، والآن يُوَجَّه إليها التحدي. ويضيف الكاتب: علينا أن نتقبل أن العالم يتغير. فهو اليوم ليس كما كان عليه قبل عشرات السنين، أما نحن فلم نتعود على ذلك، لسنا مستعدين نفسيا لذلك. الأمريكيون هم دائما في القمة. نحن ننظر إلى أنفسنا كمنتصرين إلى الأبد. علينا معرفة أنه يمكن أن توجد في العالم دول قوية أخرى.
ينتهي البرنامج بإدراج لائحة بأسماء الدول التي قامت الولايات المتحدة الأمريكية بغزوها أو بالتدخل في سياستها الداخلية ومن بينها طبعا دول عربية وإسلامية عدة. ولكن، هل يمكن للحكّام العرب الذين ما زالوا يتمسكون بالقشة الأمريكية أن يستخلصوا الدرس من كلام الكاتب المذكور وغيره من المفكرين، أبناء بلده، الذين يحذرون من احتمال أفول نجم الولايات المتحدة الأمريكية؟
*****
لعلكم لاحظتم أنني لم أتحدث بالاسم عن الشهيد جمال خاشقجي؛ لكن قصّـتـه تسري بين سطور هذا المقال. والعبرة ليست بما قيل ولا بمَن قال، ولكن بما لم يُقَـلْ!
كاتب صحافي من المغرب
You’re right Mister Taher Ettawil that what’s really happening on the world right now there is a big war between the journalists and politicals unfortunately we can’t shut down this war and we will never know when it will be end.
رحم الله جمال خاشقجي وكل الصحفيين الشهداء الشرفاء
“”هل يمكن للحكّام العرب الذين ما زالوا يتمسكون بالقشة الأمريكية أن يستخلصوا الدرس من كلام الكاتب المذكور وغيره من المفكرين، أبناء بلده، الذين يحذرون من احتمال أفول نجم الولايات المتحدة الأمريكية؟””.
حكامنا أغبياء لدرجة مخجله جدا ليستوعبوا هكذا دروس، وديكتاتوريتهم تمنعهم من أن يستوعبوها ممن يدركون هكذا أمور.
من وجهة نظري عنوان (القناة الألمانية تعمل بالمثل العربي “إياك أعني وافهمي يا جارة”… والروسية تحذّر أمريكا من “فخ ثوكيديدس” !) وما ختم به المقال (لعلكم لاحظتم أنني لم أتحدث بالاسم عن الشهيد جمال خاشقجي؛ لكن قصّـتـه تسري بين سطور هذا المقال. والعبرة ليست بما قيل ولا بمَن قال، ولكن بما لم يُقَـلْ!) أظن هو تطبيق عملي لمن لا يريد أن يقال عليه (عرب وين وطمبورة/طنبورة وين) ليثبت، أنه مهني بمعنى الكلمة في كل ما له علاقة بالاعلام المهني، في أجواء العولمة والإقتصاد الإلكتروني.
الإشكالية في دولة الحداثة مع مفهوم أن القانون لا يحمي المغفلين، فالإنسان والأسرة والشركة ماذا يفعل،
مع الخبث أو خلاطة الفوضى الخلاقة لمعنى الديمقراطية وحرية الرأي في الاستهزاء والمسخرة والتهريب تحت عنوان (النقد) لكل موظف صاحب سلطة في دولة الحداثة، في وسائل الإعلام المرئي والمسموع والمقروء؟!
ثم يأتي مثل دلوعة أمه (دونالد ترامب) أو (نتنياهو) ليقول عن كل رسالة إعلامية لا تدخل مزاجه Fake News
فمن يضحك على من، ومن يأخذ من على قدر عقله، وكيف ستكون هناك هيبة أو احترام أو شيء من رصيد المصداقية، لأي شخص يدخل الوسط الثقافي أو السياسي، في تلك الحالة؟!
ومن هنا مصدر إفلاس دولة الحداثة في أجواء العولمة والإقتصاد الإلكتروني، بشكل عملي.
خصوصا بعد تدوين لغة الحذاء على ممثلي الفساد والتقصير في أداء الوظيفة للنظام البيروقراطي، في مهد الحضارة الإنسانية (بغداد) لأهل ما بين دجلة والنيل عام 2008.