كل الذين تحدثوا عن أن اللغة تبين عمّا في النفوس لم يكونوا لا مخطئين ولا مصيبين؟ كانوا يصفون حدسا مؤدّاه، أن الإنسان يحمل في داخله أفكارا يريد أن يلقيها، وحين يلبسها لبسها من الكلام يفصح عن نفسهـ، ويبين عمّا كان يعتور داخله من أفكار. الدور البياني للغة ألحّ عليه كثير من الفلاسفة والبلاغيين وحتى من اللسانيين حين عدّوا الوظيفة الأساسية للغة هي التواصل أو الإبلاغ.
سنجرب في هذا المقال فرضية أخرى، ترى أن اللغة مثلما تبين يمكن أن تخفي لأنّ الإنسان لا يسعى في طريق أحاديّة، بل هو طيلة الوقت في طريق ذات اتجاهين أو أكثر. ففي الوقت الذي يريد فيه المرء أن يكشف ويفصح تكون اللغة وسيلته إلى ذلك، ولكن تمرّ بالمرء أوقات لا يريد أن يكشف، بل أن يعمي ويلغز، بعبارة أخرى يريد أن يحمل قناعا باللغة يخفي فيه نواياه الفعلية. واللغة تعزف على هذا الوتر بالجودة نفسها التي تعزف فيها على وتر البيان والشفافية.
لا بدّ لنا من العودة إلى يوتوبيا البلاغة القديمة، التي تعتقد أن المتكلم المثالي هو المتكلم الذي أن نطق أفصح عمّا في نفسه؛ صحيح أن هذا التصور لا يقول إن الإنسان وهو يفصح يعكس ما يدور بخلده، بل إن عليه أن يجعل الكلام يجري سهوا ورهوا، كما يقولون، بقطع النظر عن مطابقة الكلام للنوايا وللوقائع. لكنّ الإشكال أن هذا التصور مثالي للغة يعتقد أنه لا بدّ من أن تكشف وتبين وأن ما يقال لا بدّ أن يفهم.
سأجرّب أن أفهم ما يدور بخلد شخص ليس غريبا عنّي، هو أنا نفسي، حين يكتب النص التالي فيقول:»أعود لأمشي بلا غاية سوى أن أعطي لقدمي جرعة ولعيني فسحة. البحيرة تلبس سوادها كأنّما تقول للّيل لا تتركني.. هي بالليل تستتر.. لقد تقلص رداؤها المائيّ وغزت الغائرةُ اليابسةَ فيها، ولم تعد طيور صادية تحوم حولها.. كلابٌ تتعقَّب خيالي من بعيد وتنبح وتضجّ وتنزعج، كأنّه لا يوجد من خطر محدق حولها غيري. الكلاب تحرس ولا يعنيها من شأن العابرين نواياهم، ليس نباحها مرتبطا بقيم أخلاقيّة توزعها على الناس. حين يلد الكلب ويربّى لا يربّى إلاّ ليكون حارسا لقطيع.. ينام القطيع ويرعاه ربّه ويؤمّن له أكله الرغد ويحرس كي لا يأتيه في الليل اللصوص.. طائر يشبه الغرنوق غير أنّه أصغر بديع يدعوني بصوته إليه.. يقول لي صوته.. دعك من نباح الكلاب وسكينة القطيع واستمع إلى توقيع هذه اللحون.. يقول لي بعد الانسجام.. هل تعرف أين تعلمتُها؟ أمدّ شفتي أن: من أين لي أن أعلم إن لم تعلّمني؟ يقول صوته الساجع.. تعلمتها وأنا أقطع السماء جناحا جناحا وأمدا أمدا.. تعلمتها وأنا أسافر.. قلت له يا حبيبي.. دعنا الآن من السفر.. وسافرت بوجهي أبعد عنه.. قالت له صديقته وهي في ما يبدو أقل منه حلما وأكثر منه حكمة: دعه يا حبيبي.. هذا الرجل بنى كنوح سفينة ثمّ لم يأته الطوفان وصادق كسليمان الهدهد، ولم يكن لقصته عرش ولا بلقيسها.. دعه يا صديقي فإنّه منشغل من فرط همّه بأصوات أخرى، كأصوات تلك التي تعدو وتضجّ من حوله، وهو لا يعرف أيلقمها حجرا أم ينبح مثلها كي تسكت.. تسكت لأنّها ستعدّه من جنسها.. ستسكت ويسكت كي ينام القطيع.. فعند القطيع اليوم أكل ودسامة».
يبدأ القناع في الكلام السابق المحمول على الإبداع منذ البداية، حين يتعامل الكاتب مع نفسه تعامل الشخص العاقل مع الغريب. العاقل يعرف عن الغريب أشياء لا يعرفها الغريب عن نفسه، فهو يمشي بلا غاية، وهو يعرف ما الغاية، ولكنه يخفيها ويعتم عليها حين يحدثنا عن عدمها.
يبدأ القناع في الكلام السابق المحمول على الإبداع منذ البداية، حين يتعامل الكاتب مع نفسه تعامل الشخص العاقل مع الغريب. العاقل يعرف عن الغريب أشياء لا يعرفها الغريب عن نفسه، فهو يمشي بلا غاية، وهو يعرف ما الغاية، ولكنه يخفيها ويعتم عليها حين يحدثنا عن عدمها. نحن نمشي حين نمشي في يومنا وليلنا لغاية نحن نذهب إلى العمل أو إلى المدرسة أو إلى لقاء ما؛ لكن أن نمشي بلا هدف مسبق ففي ذلك ضرب من حجب العلة وإخفائها والادعاء بأننا نمشي بلا هدف.
القناع يعني هنا أن تخفي على الأقل وقتيا مفاتيحك وأحدها سؤاله: لمَ تمشي؟ إلى أيّ وجهة ولأيّ مقصد؟ أنت تمشي ولكن لأي غاية غايتك المخفيّة هي غاية في ذاتها، ستكشف عنها بعد سيرورة القراءة. لا يكون القناع طويل الأمد حتى يسقط سريعا بالإفصاح عن علّة المشي، وهي علة رمزية أو فنيّة يعود فيها القناع اللغوي لينسج ضربا من الضباب يدعوك إلى كشفه. قناع اللغة الذي تضربه اللغة على نفسها يكون بإخراج الكلام مخارج غير مألوفة، إذ ليس من المألوف أن تعطي قدميك جرعة ولعينيك فسحة، أنت تعطي الجرعة لفمك أو لفم مريض تريده أن يتداوى، لكن أن يكون لقدميك فم فذاك ضرب من التعمية والترميز الذي لا يكشف إلا إذا أزحنا عن وجه اللغة قناعها الرمزي المركّب.
ينزل القناع كالستار على وجه اللغة المألوف، حتى لا تعرفها، وحتى تبحث وراء هذا التستر لا عن الوجه الحقيقي للكلام، بل عن هذا الوجه الجديد. يمكن أن تفترض: أن تكون للقدمين جرعة يعني أنّهما ملّتا السكون أو أنّهما ملّتا المشي المعتاد.. تمرض أعضاؤنا حين تمارس رتابة وظيفتها، وتمرض أقدامنا حين تمشي لهدف مضبوط سلفا، وأن تمشي بلا غاية، يعني أن تعطي لقدميك جرعة حريّة وتجدّد. العين وهي ترى المحدود يمكن أن تسجن، ويصبح بصرك حسيرا أن تحرّر اللغة من قناعها المعتاد هو أن تكشف أن لها وجها آخر غير الذي ألفته وتألفت به حروفها المعتادة، هو أن تبني الكون بناء جديدا وكأنك تراه أوّل مرّة. في مشهد الكلاب يزاح القناع ويعود ثمّ يزاح من جديد. لا قناع في وصف الكلاب بالحراسة، لكنّ القناع المنزاح يمكن أن ينسج الرداء من جديد، حين يطرح السؤال عن سرّ الحديث عن الكلاب وحراستها، ولصوص الليل، وغيرها من الأفكار التي تبدو غريبة في هذا السياق. يصبح القناع سدى الكلام كلما كان وراء الكلام الواضح رمز.
من الممكن أن تبحث وراء رمزية الكلاب واللصوص وأصحاب الكلاب ومالكيها ليس لك حريّة كبيرة في دفع ثمن الرمز لإزاحة اللثام عن الكلام. هل يمكن أن تبحث عن رمزيّتها في الثقافة المحيطة أو السائدة؟ أم أن لها مفاتيح خاصة؟ لا أحد يستطيع أن يتكهن برمزية مُسَلَّم بها، طالما أن هناك استعمالات كثيرة لهذه الرموز؛ فمن الناحية الثقافية يمكن أن يحمل الكلب قيمة رمزية سالبة أو موجبة، وبعد هذا التقييم نبحث عن مفاتيح الرمز التي هي في الحقيقة مفاتيح للأقنعة كي تكشف اللغة وجهها الجديد. حين نعطي للرمز قيمته يمكن لنا أن نسقط عن هذه المدلولات أقنعتها، فلن نرى الكيانات كلابا أو لصوصا سوف نراها أفكارا تسعى سوف نراها بتأويلاتها التي قدمناها لها.
ينسج القناع اللغويّ كثيفا في آخر الكلام حين يشبه الشخص بنوح ثمّ يختلف عنه، وحين يشبه سليمان ثمّ يختلف عنه لن يزول القناع بيسر إلاّ إذا بحثت عن كسر قاعدة الأيقونة، وهي أن تبنى المشابهة ثمّ تكسرها: كاد المتحدّث يكون نوحا لولا غياب الطوفان، وكاد يكون سليمان الحكيم لولا غياب بلقيس. يصبح للطوفان قيمة بالعدم، وتصبح بلقيس قيمة بالغياب لا بالحضور.غياب الطوفان يجرف عنه نبوة نوح وصبره، وغياب بلقيس يزيح عنه عرش سليمان. يعود إلى بشريته حين ينقطع به حبل النبوة السري. بقطع الحبل يسقط القناع اللغوي لأن النص انتهى وسكتت اللغة لكنّ الأكوان تظل تبنى حتى في غيابها.
أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية
كيف يمكن أن تكون اللغة وسيلة تشفير، وكيف يمكن أن تكون وسيلة بيان، وكيف يستطيع (ذكاء الآلة) تمييز ذلك، حيث أصبحت الآلة (الروبوت)، وسيلة التواصل والاتصال والحوار والاتفاق على خطط لتنفيذها كفريق، بين ثقافة الأنا وثقافة الآخر، في أجواء سوق العولمة، خصوصاً بعد جائحة (كورونا)؟!،
هذا سؤال خطر لي بسبب ما ورد (ففي الوقت الذي يريد فيه المرء أن يكشف ويفصح تكون اللغة وسيلته إلى ذلك، ولكن تمرّ بالمرء أوقات لا يريد أن يكشف، بل أن يعمي ويلغز، بعبارة أخرى يريد أن يحمل قناعا باللغة يخفي فيه نواياه الفعلية) تحت عنوان (القناع اللغوي) نشره التونسي (د توفيق قريرة) أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية، في جريدة القدس العربي، البريطانية، والأهم هو لماذا، وما دليلي على ذلك؟؟
قبل أيام نجح مجموعة من شباب (المغرب)، أتفق بسبب أن المسموح فقط، في السفر إلى (تركيا)، وأن الرحلة بسبب الخلاف (الجزائري المغربي)، ستضطر بالمرور (فوق) دول أوروبا (بدل) دول أفريقيا،
بعمل تحايل مرضي، لجعل الطائرة تهبط، في أقرب مطار أوربي، من أجل الهروب والدخول إلى أوربا،
ما الذي قصّرت به مناهج تعليم دولنا، هنا، التي أدّت إلى استغلال الذكاء اللغوي الإنساني، في إيجاد خطط، حتى يستطيع الهجرة إلى أوروبا، بهذه الطريقة؟!
لماذا حامل الأوراق والهوية الرسمية من دولنا، لا يستطيع دخول أي دولة في العالم، بلا عوائق؟!
ولماذا فشل الموظف، رغم كل أدوات وبرامج مهنة التجسّس والمتابعة في مخازن (مخابرات) كل كيانات سايكس وبيكو،
بداية من الأخبث والأكثر حنكة في هذا المجال (المملكة المغربية) بشهادة فرنسا، في اكتشاف هذه الخطة، التي تم التوافق عليها، بشكل علني على برامج التواصل الاجتماعي المفتوحة، هنا؟!
أو بمعنى آخر، هل يمكن أن (يتفوق) ذكاء الآلة (الروبوت) اللغوي، (على) ذكاء الإنسان والأسرة والشركة المنتجة للمنتجات اللغوية الإنسانية، في أي مجال، وما هو هذا المجال، لو أمكن، ولماذا؟!??
??????
قبل كل شيء، معذرة على التأخير فالمشاغل تتراكم تباعا إلى حد الجنون.. بالنسبة لقولك التالي:
/سنجرب في هذا المقال فرضية أخرى، ترى أن اللغة مثلما تبين يمكن أن تخفي [..] ففي الوقت الذي يريد فيه المرء أن يكشف ويفصح تكون اللغة وسيلته إلى ذلك، ولكن تمرّ بالمرء أوقات لا يريد أن يكشف، بل أن يعمي ويلغز، بعبارة أخرى يريد أن يحمل قناعا باللغة يخفي فيه نواياه الفعلية/.. اهـ
كما تعلمتُ من أستاذي غياث المرزوق، وعلى الأخص من كتاباته في مجال التحليل النفسي، مشيرا أكثر من مرة إلى ذلك التصريح الهام والخطير الذي يعرِّف جاك لاكان من خلاله مهمة هذا المجال تعبير فلسفيا لامباشرا، بما معناه، كما يلي: «إن توصية المحلِّل النفساني الحق، في التحليل الأخير، لَتوصيةٌ إنسانيةٌ فريدة لا تختلف، من حيث الجوهر، عن توصية ذلك الفيلسوف الإنساني الفذ الذي نادي مرارا بقولته الهامة والخطيرة: «إن الإنسان قد مُنح اللغة [الإنسانية] لكي يُخفيَ أفكارَه، في المقام الأول»» – فلكَ أن تتأمَّل مليًّا هذه القولةَ، إذن،