خمسون عاما من التشرذم العربي أكدت غياب القوة التي تملك الجذب المركزي وتحافظ على عالم عربي يتمتع بقدر من التماسك الداخلي والمنعة التي ترهب العدو. فمنذ غياب الرئيس المصري جمال عبد الناصر خسرت مصر موقعها كقوة عربية تمثل مرجعية سياسية وثقافية لهذه الأمة المترامية الأطراف. هذا التشرذم أدى تدريجيا لإزالة عوائق التدخل الأجنبي على تعدد مصادره. فلا السعودية استطاعت ملء الفراغ القيادي ولا العراق أو سوريا، فضلا عن دول المغرب. فكان من مظاهر هذا التشرذم عدد من الظواهر التي تزيد أمتنا تخلفا وتشرذما وضعفا.
أول هذه المظاهر هرولة الأنظمة للتطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي والدخول في محاور أمنية معه بدون خجل أو خشية من ردود فعل جماهيرية رادعة. وقد تبلور المحور الذي تشكل «إسرائيل» نقطة ارتكازه بعد ثورات الربيع العربي الذي اعتبرته السعودية وبعض دول مجلس التعاون التحدي الأكبر لأنظمتها، ولذلك لم توفر وسيلة لقمعه بأبشع الأساليب وأكثرها توحشا. أنفق المال النفطي على نطاق واسع للتصدي له، وتمت تعبئة جميع الطاقات الأمنية لقمع الجيل العربي الثائر الذي كان يبحث عن هوية سياسية مختلفة. والأخطر من ذلك ظهور تحالف شرير ضم قوى الثورة المضادة بمحورية إسرائيلية وضعت إمكاناتها الأمنية التي استفادتها من التصدي للانتفاضات الفلسطينية المتعاقبة في خدمة أنظمة القمع والتصدي للشعوب الثائرة.
وحظيت «إسرائيل» بمكافآت عديدة: الهرولة للتطبيع معها، غض الطرف عن بناء المستوطنات على الأراضي الفلسطينية، السماح لها باحتلال القدس وتهيئة الظروف لنقل السفارة الأمريكية اليها، وتشجيع الكيان الإسرائيلي لمواصلة العدوان ضد محور المقاومة ابتداء بحماس والجهاد الإسلامي وحزب الله وصولا إلى إيران. ثاني هذه المظاهر تصدع جبهات الأمة، الواحدة تلو الاخرى، تارة بفعل التدخلات الأنجلو ـ أمريكية وأخرى بإثارة ايديولوجيات الكراهية والاحتراب الديني والمذهبي، وثالثة بضرب التحالفات التقليدية وضرب القوى العربية القوية. فسقطت مصر تماما من المعادلة السياسية الاقليمية بعد انقلاب العسكر على الديمقراطية الهشة التي كانت الثمرة الوحيدة لثورة 25 كانون الثاني/يناير، وسقطت سوريا كقوة إقليمية بعد إشعال حرب أهلية فيها ودعم التطرف والإرهاب لتدمير واحدة من أعرق حضارات المنطقة. وضرب العراق أولا بالحرب الأنجلو ـ أمريكية في العام 2003 ثم تقطيع أوصاله بالطائفية والتطرف، وأخيرا بضرب مصداقية نظامه السياسي وإسقاط مشروعه الديمقراطي بممارسات قاتلة منها المحاصصة والفساد وإبراز خطر التقسيم.
ما حدث في الأعوام الأربعة الأخيرة من تطورات إقليمية في المشرق العربي أسس لواحدة من أشد الحقب ظلاما. فقد بدأ الملك سلمان عهده بالانقلاب على تقاليد الاستخلاف السعودية، فعين نجله، محمد، وليا للعهد ليقود المملكة من أزمة إلى أخرى. هذا الشاب المتهور بدأ عهده بشن الحرب على اليمن، وهي واحدة من أسوأ الحروب التي شهدتها المنطقة في العقود الأخيرة. فقد دمرت البشر والحضارة والبنية التحتية، وشقت جروحا عميقة في الجسد العربي وأحدثت تصدعا في البناء السياسي حتى داخل مجلس التعاون الخليجي نفسه.
فقد نأت ثلاث من دوله: الكويت وعمان وقطر، بنفسها عن ذلك العدوان، بينما شاركت الإمارات والبحرين بشكل فاعل في ذلك العدوان. ولا بد من التأكيد على دور الولايات المتحدة وبريطانيا في انطلاق الحرب واستمرارها. ومع ذلك بدأ العالم ينقلب على الحرب والمشاركين فيها، ويطالب بوقفها فورا. وقد جاء نداء وزيري الخارجية والدفاع الأمريكيين هذا الأسبوع لوقف الحرب قبل نهاية تشرين الثاني/نوفمبر الجاري ليحاصر السعودية والإمارات والبحرين التي ستخرج من الحرب خاسرة سياسيا وأخلاقيا.
ما يجري في الأروقة السياسية في الرياض هذه الأيام من محاولات لاحتواء أكبر أزمة واجهت الحكم السعودي منذ حوادث 11 ايلول/سبتمبر الإرهابية لا يعبر عن رغبة حقيقية في التغيير الإيجابي
كان من مبررات الحرب التي قادتها السعودية على اليمن التصدي للنفوذ الإيراني في المنطقة. ولكي يكون هناك قدر من الإنصاف لا بد من إعادة تأكيد الحقائق المذكورة أعلاه، ففيها شيء من التفسير لما يعانيه العالم العربي من انكشاف كامل للحدود أمام الآخرين الذين يطمعون في بسط نفوذهم. أول هذا التمدد انطلق من الكيان الإسرائيلي الذي بدأ التطبيع معه بشكل فاعل بعد الربيع العربي. لقد تمدد نفوذه بشكل مضطرد ومرعب أكدته زيارات مسؤوليه لعدد من العواصم العربية وتطبيع العلاقات مع أجنحته الرياضية والثقافية والاقتصادية بمستويات لم تكن متوقعة قبل خمسين عاما. ومأساة توسع هذا النفوذ أنه امتد داخل فلسطين نفسها، ببناء المستوطنات وتهويد القدس وحصار غزة وتقليص صلاحيات الإدارة الفلسطينية وشن العدوان على غزة بشكل متواصل، فلا يمر شهر واحد بدون قصفها وقتل أطفالها. وفي غياب القوة المركزية أو التحالف العربي الفاعل انكشفت الحدود العربية على مصاريعها. فأصبحت أمريكا حاضرة في كل بلد عربي تقريبا بقواعدها العسكرية وسفاراتها العملاقة ووكلائها المحليين. وهناك النفوذ الإيراني الذي يستغل دائما لتبرير استهداف الجمهورية الإسلامية بدون توقف.
إيران لديها نفوذ في العراق، ولكن تنافسها أمريكا وحتى السعودية أيضا. ولديها نفوذ في لبنان بمنافسة من الدولتين المذكورتين كذلك. ولديها نفوذ في سوريا بمنافسة روسية هائلة. أما في اليمن فنفوذها محدود جدا بسبب البعد الجغرافي والتمايز المذهبي. وأخيرا هناك نفوذ تركي من خلال العلاقة مع دولة قطر وجماعة الإخوان المسلمين. والسؤال هنا: كيف وجدت إيران وتركيا مجالا لتوسيع النفوذ؟
فما دام تحالف قوى الثورة المضادة قد اختلق المشاكل السياسية والإرهابية والعسكرية في العديد من البلدان، وفي غياب قيادة عربية فاعلة، فهل من الغريب أن تلجأ الدول المنكوبة بتصدعاتها الداخلية للتقارب مع إيران أو تركيا؟ لو لم تدعم السعودية والإمارات الإرهاب في العراق وسوريا فهل سيحتاج البلدان لدعم إيراني أمني وعسكري يساعدهما على التصدي للإرهاب الذي أتى على الأخضر واليابس؟ لو لم تواصل «إسرائيل» عدوانها على غزة وتحاصر أهلها وتستغل قوتها الضاربة لاستهداف الفلسطينيين المحاصرين فهل سيجد الفلسطينيون حاجة للدعم الإيراني؟ لو وقفت السعودية والإمارات بجانب أهل غزة ووفرت لهم ما يحتاجون من طعام ودواء وأدوات للدفاع عن أنفسهم، هل كان الدعم التركي أو الإيراني ضرورة لهم؟ لو أن القيادة السعودية لم تستهدف دولة قطر ومعاملتها ككيان تابع لها بدون سيادة أو قرار مستقل، ولو لم تفرض عليها حصارا مقيتا وتطلب من الدول الأخرى التي تستلم الدعم المالي السعودي بفعل ذلك أيضا، هل كانت قطر ستلجأ إلى تركيا لتمتين العلاقة وتوقيع اتفاقات دفاعية معها؟
الأمر المؤكد أن إضعاف العالم العربي خصوصا على مستوى الايديولوجيا والقيادة كشفه أمام الآخرين من جهة واضطر بعض دوله للاستعانة بدول صديقة وجارة. فتركيا وإيران لا تطمعان في أموال السعودية بينما كان الرئيس الأمريكي صريحا عندما كرر قوله إنه يريد المزيد من المليارات السعودية. فما الذي أوصل الأوضاع إلى هذا المستوى من الهبوط؟ عندما يتعامل الحكام مع مواطنيهم بالتوحش الذي يستهدف إنسانيتهم، وحين يستهدف عسكر مصر معارضيهم، وحين يعمد نظام البحرين لسجن الآلاف من مواطنيه وينكل بسجنائه السياسيين، وعندما يسخر نظام سياسي إمكانات الدولة بما فيها من طائرات وسفارات لاستهداف مواطن يعارضه ويقتله بسادية هزت ضمير العالم، فهل يلام المواطنون الآخرون حين يلجأون للأجانب لحمايتهم؟ فجريمة قتل جمال خاشقجي في القنصلية السعودية باسطنبول قرعت أجراسا مدوية بأن هذه الأنظمة تتجاوز السادية في تعاملها مع البشر وأن الوقت قد حان لتغييرات سياسية جوهرية في المنطقة، ولكن الآذان الصماء والقلوب الميتة تتجاوز ذلك وتصر على التعامل مع الأنظمة المجرمة وكأن شيئا لم يكن.
وما يجري في الأروقة السياسية في الرياض هذه الأيام من محاولات لاحتواء أكبر أزمة واجهت الحكم السعودي منذ حوادث 11 ايلول/سبتمبر الإرهابية، لا يعبر عن رغبة حقيقية في التغيير الإيجابي. فمع التردد في تحديد مصدر القرار الكارثي هناك تحركات تسعى لاحتواء أزمة البيت السعودي بحضور عدد من رموزه من بينهم أحمد بن عبد العزيز، وزير الداخلية السابق الذي عاد من لندن مؤخرا بضمانات دولية، وأخوه مقرن الذي كان وليا للعهد قبل الإطاحة به بقرار من أخيه سلمان. الهدف «إصلاح» البيت السعودي من داخله، ولكن يبدو أن الأمر تجاوز ذلك وأصبحت هناك حاجة لطرح بدائل سياسية مختلفة لتجاوز الأزمة الإقليمية وليس أزمة البيت السعودي فحسب، وإلا سيظل العالم العربي مكشوفا أمام الآخرين وفي مقدمتهم الاحتلال الإسرائيلي التوسعي والجشع الأمريكي الذي لا يعرف حدودا. العالم العربي يحتاج لمحور سياسي عربي واسع يمتلك قوة جذب مركزية قوية تجذب الجميع إليها وتمنع الأطماع التوسعية للآخرين. وما عدا ذلك سوف تبقي أمتنا العربية تدور في حلقة مفرغة تستنزف طاقاتها وتكرس أزماتها وتعمق مشاعر اليأس لدى أبنائها.
كاتب بحريني