القوة الناعمة هو مفهوم صاغه جوزيف ناي من جامعة هارفارد عام 1990 لوصف قدرة الدول على الجذب والتأثير والسيطرة والازدهار والانتشار وتحقيق التنمية والأرباح بطريقة ناعمة دون اللجوء إلى الإكراه أو استخدام القوة كوسيلة للإقناع والهيمنة. لكن لمن يعرف أبسط أبجديات التاريخ سيضحك فوراً على نظرية «القوة الناعمة» لأن حركة التاريخ لم تصنعها القوى الناعمة بل صنعتها على الدوام القوة الخشنة، فكل التحولات التاريخية منذ قرون وقرون قامت على الحروب والغزوات والاجتياح والقوة والقتل والدمار والاستحواذ بالقوة على أراضي الآخرين وثرواتهم والسيطرة عليها. ولولا القوة الخشنة لما كان هناك مستعمرون ولا حركات استعمارية ولا احتلالات ولا تغيرات في الجغرافية العالمية ولا حتى دول وطنية أو تغيرات ديموغرافية. ولا ننسى أن الشعوب ليست شيئاً تاريخياً ثابتاً، بل متحول باستمرار، فالشعوب التي كانت تسكن في بلاد الشام مثلاً قبل قرون ليست نفسها التي تسكنها الآن، لأن حركة التاريخ القائمة على القوة والاغتصاب والإرغام هي التي تحدد الطابع الديمغرافي والأنثروبولوجي للدول. وها نحن نرى اليوم بأم أعيننا كيف تتغير الطبيعة الديمغرافية لسوريا بعد عمليات التهجير والقتل والاغتصاب، فقد شاهدنا نزوح أكثر من نصف الشعب من سوريا، وهذا يعني بالتأكيد تغيير الخارطة السكانية للبلد. بعبارة أخرى، فإن من يصنع الديمغرافيا والتضاريس السياسية وحتى الثقافة في العالم هي القوة الخشنة بالدرجة الأولى. فلماذا إذاً يحاول البعض الآن إنفاق المليارات على تنمية القوة الناعمة وكأنه «سيشيل الزير من البير»؟
ليس هناك مشكلة مطلقاً في تنمية القوة الناعمة في أي بلد عربي واستغلالها اقتصادياً وثقافياً وشعبياً. ولا شك أن الانفتاح الثقافي والإعلامي والشعبي أفضل بعشرات المرات من الانغلاق والتعصب الديني والاجتماعي والتحجر والانزواء، لا بل نشد على أيدي كل من يعمل على عمليات التحديث الاجتماعية والثقافية وانتزاع الشعوب من أيدي العصابات والمافيات الدينية التي فعلت فعلها بمجتمعاتنا على مدى عقود وعقود لأنها كانت الوسيلة الأمثل لسادة العالم في وقت من الأوقات لأغراض استراتيجية واقتصادية وعسكرية. وللتوضيح، لا ننسى مثلاً أن أمريكا دعمت حركات دينية ظلامية متحجرة في منطقتنا لعقود لاستخدامها كسد في وجه الاتحاد السوفياتي بالشرق الأوسط. ولا شك أننا نرحب اليوم باجتثاث تلك الحركات بعد أن انتهى دورها التاريخي واستبدالها بمجتمعات مفتوحة واستغلال كل أذرع القوة الناعمة لبناء مجتمعات حديثة منفتحة جديدة تواكب العصر والتطور. لا بأس في ذلك أبداً، ونكرر أننا ندعم ونصفق لمثل هذه التحولات العظيمة. لكن سؤالنا البسيط، ألا يجب أن يترافق بناء القوة الناعمة مع بناء القوة الخشنة، خاصة إذا ما علمنا أن القوة الناعمة تصبح بلا قيمة إذا لم تدعمها قوة خشنة صلبة؟
نحن نرى اليوم بأم أعيننا كيف تتغير الطبيعة الديمغرافية لسوريا بعد عمليات التهجير والقتل والاغتصاب، فقد شاهدنا نزوح أكثر من نصف الشعب من سوريا، وهذا يعني بالتأكيد تغيير الخارطة السكانية للبلد
وللعلم فإن حتى القوة الأمريكية الناعمة القائمة على السينما والفن والإعلام والثقافة بكل أشكالها الفنية والشعبية بما فيها الأكل والشرب والأزياء لم تكن لتصمد وتتمدد لو ذراع القوة الأمريكية الخشنة، ولا ننسى مقولة ابن خلدون الشهيرة أن المغلوب دائماً يقلد الغالب، ولولا أن أمريكا غالبة عسكرياً في كل أصقاع العالم لما وصلت ثقافتها وقوتها الناعمة أبعد من الحدود الأمريكية. لهذا نهيب بأي بلد عربي يحاول أن يبني قوة ناعمة أن يعمل في الآن ذاته على صناعة القوة الصلبة كدرع واق للقوة الناعمة وألا يعتمد على القوة الخشنة لأي جهة خارجية، فطالما أنك لا تمتلك الذراع العسكري القوي فستظل أنت وقوتك الناعمة مهما بلغت من الشأو ستظل تحت رحمة الخارج. وحتى الحماية الأمريكية صارت باهظة الثمن وتقوم على الابتزاز والإذلال ولم تعد ناجعة حتى في حماية منابع النفط في المنطقة. ولو نظرنا اليوم إلى القوى الناعمة العملاقة في العالم كألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية في ظل موازين القوى المضطربة والمتزعزعة اليوم لوجدنا كيف أن القوى الناعمة مهما انتشرت وهيمنت وسيطرت تظل في مهب الرياح عند أول تهديد عسكري. لهذا بادرت ألمانيا بعد الغزو الروسي لأوكرانيا فوراً إلى تخصيص أكثر من مائة مليار يورو للتسليح وبناء القوة العسكرية بعد عقود من الاعتماد على القوة الأمريكية للحماية. وحتى اليابان وكوريا الجنوبية لا محل لهما من الإعراب في عالم اليوم إذا لم تبادرا إلى بناء القوة الخشنة للحفاظ على القوة الناعمة العظيمة التي بنتاها على مدى عقود. وقد وصل الأمر بالصين قبل أيام إلى تهديد اليابان بالقول إن اليابان إذا لم تلتزم حدودها وتجلس ساكتة فإنه سيحدث لها ما حدث لأوكرانيا. لاحظوا هذا الاستخفاف الصيني بقوة اليابان الناعمة. لماذا؟ لأن اليابان عملاق اقتصادي لكنها قزم عسكري مثل كوريا الجنوبية وألمانيا. كل اختراعات ومنتجات اليابان وكوريا الجنوبية وقوتهما الناعمة الجبارة لم تشفع لهما عندما تتحرك القوة الخشنة. نعم أوروبا متقدمة أكثر من روسيا، لكنها تجد نفسها الآن أمام الجبروت الروسي في مهب الريح.
لهذا نرجو من الدول العربية أن تتعلم من خطيئتها في لبنان، فبينما كان العرب يستثمرون في بلاد الأرز بالرقص والغناء والفنادق والمطاعم كانت إيران تستثمر في القوة الخشنة والميليشيات والسلاح، فأصبح لبنان العظيم بقوته الناعمة مجرد قزم لا بل أداة في أيدي أصحاب القوة الخشنة ممثلاً بحزب الله ذراع إيران الصلب في لبنان. وأتذكر ذات يوم عندما بدأ البعض يحذر من حرب بين عصابات إيران والجماعات التي يدعمها العرب في لبنان، قلنا وقتها: لا يمكن أن تواجه الميليشيات الإيرانية في لبنان بالشيشة والخلخال وبدلة الرقص. ولو أن الخليج استثمر في بناء ذراع عسكري داخل لبنان بدلاً من الاستثمار في الفنادق لكان حجم حزب الله في لبنان اليوم كحجم القملة في اللحية، حسب مغرد خليجي.
وأخيراً ما فائدة أن تبني قوة ناعمة عظيمة في المنطقة العربية وهي محاطة بكل أنواع الوحوش المفترسة الإقليمية منها والدولية. ألا نحتاج إلى صناعة الطائرات المسيرة والصواريخ والمدافع الثقيلة والجيوش النظامية وحتى المفاعلات النووية جنباً إلى جنب مع السياحة والترفيه والانفتاح الاجتماعي والتنمية الاقتصادية والتجارية؟ أليست طائرة مسيرة واحدة قادرة على تهديد أقوى قوة ناعمة في العالم وجعل عاليها سافلها؟
كاتب واعلامي سوري
[email protected]
صدقت يا استاذ فيصل،مقال في الصميم.المرجومن الدول العربية التي تجني ارباحا هائلة من الموارد النفطية والغازية،وتنفقهافي كل ماله علاقة بالقوة النعامة.عليها أن نستنتج الخلاصات والعبر من هذا المقال،وان تغير من سياسة الانفاق بحيث يسير الاستثمار في بناء القوة الناعمة والقوة الخشنة(المجال العسكري)بشكل متواز،وإلا ستصبح ،في يوم من الايام ،لقمة سائغة لقوة خشنة، ربما تكون أصعف منها اقتصاديا .
القوة الناعمة هذه طبيعة النساء
*بدون شك (القوة الناعمة والقوة الخشنة)
يكملان بعضهما واحسن مثل على ذلك (الصين)..
*الصين تقدم القوة الناعمة لهذا كسبت
في أفريقيا وآسيا وحتى أوروبا.
تحيات . كتبت عن القوة الناعمة وتأثيرهافي مواضع كثيرة ، غير أن ما يطرحة الدكتور فيصل القاسم صحيح ، وموضوعي ، وواقعي ، وهو ما نشهده بأنفسنا اليوم ، ويؤيده التاريخ . وحين طرح جوزيف ناي مفهوم القوة الناعمة ، كانت الولايات المتحدة قد قطعت أشواطا في التسلح ، والاستعداد . وجاءت القوة الناعمة لتسند هذا الردع الذي بنته القوة الخشنة ، وهذا معدوم في الوطن العربي . شكرا للدكتور فيصل وللقدس العربي الغرّاء . د . وليد محمود خالص
تعتبر الولايات المتحدة المثال الناجح للقوة الناعمة في العالم. عندما نتحدث عن القوة الناعمة علينا التفكير في القيم المصاحبة للقوة الناعمة والخشنة. القوة الناعمة تبقى ضعيفة وزائلة بدون قيم عابرة للقارات.، والدول المذكورة في المقالة ، باستثناء الولايات المتحدة ، لا تقدم مثالًا جيدًا للقوة الناعمة. فالى جانب القوة الناعمة للولايات المتحدة الأمريكية تركن قيم امريكية سيطرت على عقول البشر في العالم بعد الحرب العالمية الثانية مثل مثل الديمقراطية والحرية والحريات والعدالة والمساوات الى جانب النمو الاقتصادي الهائل والاختراعات وكانت أوروبا الغربية الاول من اعتمد القيم والحياة الامريكية في الستينيات وقاموا بتطبيها في مجتمعاتهم. وظلت القوة الناعمة الامريكية تنتشر وتنخر في عقول وحياة الناس الى يومنا هذا في انحاء العالم بالرغم من ان تاريخها ملطخ بدماء الشعوب.
القوة بحاجة لرابطة تجمع البشر في بوتقه واحدة بحيث تمنع تشرذمهم وتحميهم من البعثرة والضياع وهذا لا يمكن أن يحدث عند العرب إلا برابط دينية لأنهم مفطورون على حب الزعامة – ابن خلدون- الرابطة الدينية هي الأقصى فلو أن ثورات الربيع العربي خرجت من أجل الأقصى بدلا من أن تخرج من أجل الطحين والسكر لعادت الغنائم بدلا من الهزائم ولما تمكن المستبد.من تشكيل ثورة مضادة أو طابور خامس وهنا يظهر تقصير الكتاب والأدباء الذين لاحجة لديهم بعد توفر هذا الفضاء الحر المتمثل بالشابكة أو الإنترنت.
لا حول ولا قوة الا بالله
دول العرب تصرف أموال للتسلح، ومقدرات جيوشها مهم جدا، التحدي في الكفاءة في القيادات العسكرية و تدخل الجيش في الإقتصاد و الفساد
لا تستطيع ان تفصل بين القوة الخشنة والناعمة. فهما حسب الحاجة والوقت والظروف يستخدم كل منهما. نحن كعرب نفتقر الى الادارة والارادة لاستخدام لكل منهما، دائما نتستخدم القوة الخشنة لقمع واخراس الشعوب باالداخل
1)- “وها نحن نرى اليوم بأم أعيننا كيف تتغير الطبيعة الديمغرافية لسوريا بعد عمليات التهجير والقتل والاغتصاب؟!