في محاولة لفهم ما لا يُفهم وتحليل ما صار من الصعب تحليله حول تفاصيل مفاوضات «انتخاب» رئيس للجمهورية اللبنانية، يجب أن نبدأ من التسليم بحقيقتين:
الأولى هي أن الرئيس اللبناني لا ينتخب بل يُعيَّن، ربما كان هناك استثناءان لهذه الحقيقة:
الاستثناء الأول هو انتخاب بشارة الخوري عام 1943، الذي تم في أجواء المناخ الاستقلالي، ثم التجديد له الذي انتهى بثورة بيضاء أطاحته عن الرئاسة.
الاستثناء الثاني هو انتخاب سليمان فرنجية الجد، الذي نجح بفارق صوت واحد على منافسه الياس سركيس، وسط أجواء الصراع الداخلي بين النهج الشهابي والحلف الثلاثي.
حتى في هذين الاستثناءين لا بد من الإشارة إلى الظروف الإقليمية التي دعمت انتخاب الرئيس، ففي الحالة الأولى كان النفوذ البريطاني المتعاظم في المنطقة يسعى إلى وراثة الانتداب الفرنسي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، أما الانتخاب الثاني فكان ممكناً بعد هزيمة الناصرية في حرب حزيران- يونيو 1967، وانحسار نفوذ مصر الإقليمي.
أما فيما تبقى من الحالات فكان الرئيس يُعيَّن من القوة أو القوى الإقليمية المسيطرة.
الثانية هي أن الصراع في بيروت حول انتخاب الرئيس ليس سوى محاولات من القوى الطائفية المتصارعة على السلطة للتأثير على الدول التي تملك قرار التعيين.
الرئيس يُعيَّن ولا ينتخب، ولا قدرة للقوى الطائفية اللبنانية على الوقوف في وجه قرار التعيين حين يصدر. وهذا يعني أن الحكام مدينون للخارج، وهم بالتالي منقطعو الصلة بالناس، إلا في جانب واحد هو مراعاة مقتضيات الزبائنية التي تشكل أساس قاعدتهم، وتسعير الخطاب الطائفي عند الضرورة للحفاظ على شعبيتهم.
كيف يعين الرئيس وأين يتم ذلك؟
كل تعيين صاحبته ظروفه السياسية والإقليمية؛ فصفقة مورفي- ناصر أتت برئيسين: فؤاد شهاب وشارل حلو، والغزو الإسرائيلي أتى برئيسين: بشير وأمين الجميل، والصفقة الأمريكية-السورية كادت تأتي بمخائيل الضاهر، وكان ثمن التمرد المسيحي عليها كبيراً. صفقة الطائف بصيغتها التوافقية أتت برينيه معوض قبل أن يتم اغتياله وينفرد النظام السوري بتعيين رئيسين مُدد لكل منهما ثلاث سنوات: الياس الهراوي وإميل لحود. صفقة الدوحة بعد الخروج السوري من لبنان أتت بميشال سليمان، والاتفاق النووي الأمريكي-الإيراني سمح للإيرانيين بتعيين ميشال عون بعد رضوخ معارضَيه: جعجع والحريري.
كيف يتم التعيين؟
التعيين هو نتيجة مفاوضات معقدة تجري في الكواليس، ولا يقوم الإعلام سوى بتتبع ما يرشح عنها.
أي أن المفاوضات علنية لكن مضامينها سرية. في الماضي كان هناك طرفان: أمريكا ومصر أو أمريكا وسورية، أما اليوم ومع انهيار النظام الإقليمي فهناك مجموعة من الأطراف ذوات المصالح المتضاربة في كثير من الأحيان.
هناك الآن عدة كواليس، بعضها علني وبعضها الآخر سري.
ومن أجل شرح هذه الفكرة، علينا أن نحدد الكواليس واحداً واحداً، وهذا يقتضي أن نجد الكلمة التي تدل على مفرد الكواليس.
فكلمة كواليس معربة عن الفرنسية، ولا تستخدم في العربية المعتمدة إلا بصيغة الجمع، كي تدل على القنوات أو الدهاليز السرية التي تطبخ فيها الاتفاقات قبل إعلانها.
أعتقد أن أفضل مفرد للكلمة هو «كالوس»، وقد استنبطت الكلمة على قياس كابوس، فمفرد كوابيس هو كابوس، لذا يصح أن يكون مفرد كواليس هو كالوس.
هذا القياس ليس نتاج الإيقاع المشترك للكلمتين فقط، بل هو أيضاً الأكثر ملاءمة للمرحلة. فاللبنانيات واللبنانيون يعيشون في كابوس دائم على كل المستويات، أما تعيين رئيس من المفترض أن يقود الخروج من المأزق، فيتم في أكثر من كالوس دولي:
من الكالوس الفرنسي-السعودي، الذي يحاول فيه الفرنسيون مقايضة رئيس يريده الثنائي الشيعي، ومن خلفه أو أمامه إيران، برئيس حكومة ترتاح له السعودية!
إلى الكالوس القطري-السعودي الذي انطلق من دعم تعيين قائد الجيش، إلى الكالوس الأمريكي-السعودي الذي لا نعلم إلى أين يتجه، إلى محاولة مصر دخول أحد الكواليس رغم أنها لم تجد حتى الآن كالوسها.
لعبة الكواليس معقدة، نتيجة انهيار توازنات المنطقة.
لكن الجميع ينتظرون ولادة الكالوس المنقذ، الذي يأملون أن يكون نتاج المصالحة السعودية-الإيرانية، التي ولدت على يد القابلة الصينية!
كما ترون، فإن لعبة الكالوس التعييني الذي يطلقون عليها اسم الانتخاب، تتم فوق الكابوس اللبناني الرهيب الذي حوّل لبنان إلى خراب.
هل من المعقول أن يكون الموضوع الوحيد هو حماية سلاح حزب الله أو نزع الشرعية عنه، مع تجاهل تام للكارثة الاقتصادية والمجتمعية والأخلاقية التي يعيشها لبنان؟
أستطيع أن أفهم ألّا يبالي أصحاب كل كالوس من الدول التي تطبخ لنا الرئيس سوى بمصالحه ونفوذه، أما أن يكون النواب على هذه الدرجة من اللاإحساس واللامسؤولية، فهذا يثير العجب.
كل العصابات اللبنانية تنتظر قرار الكواليس كي تلتهم حصتها من جثة لبنان.
هؤلاء الضباع الذين يقتاتون على جثة وطنهم، هم من صنعوا الكارثة، وهم الآن يحتمون بأسيادهم الإقليميين والدوليين كي يبيعوا ما تبقى من وطن، مقابل أن يتابعوا لعبة النهب.
وللأسف، فإن من ادعوا بأنهم يمثلون التغيير، حولوا الموقف الشعبي الأخلاقي الذي حملهم للمجلس النيابي إلى مسخرة.
الكواليس فوق والكوابيس تحت، هذا هو لبنانهم.
أما لبناننا فلن نجده في قصائد جبران خليل جبران، بل علينا أن نخترعه قبل أن يبتلعنا الكابوس والكالوس.