يكفي من جلْد الذات. الضُرُّ في مكان آخر، في غير ما يعتقد المتتبعون للشأن الثقافي العربي. الكتاب العربي، الرواية تحديداً، لا يقل قيمة عما يُنتج عالمياً في نماذجه الناجحة، بل إنه يتخطى عتبات الجودة العالمية عند بعض الكتاب على قلتهم، لكنه يعاني من معوقات مدمرة كثيرة لا علاقة لها أبداً بالجودة وقيمة الكتاب. الروايات التي تتجاوز مبيعاتها المليون عالمياً، ليس من الضروري أن تكون هي الأفضل والأجود؟ قراءتها بتبصر تضعنا أمام السؤال القديم الجديد: كيف وصلت إلى هذا الشيوع؟ هناك ذائقة عامة يتم تصنيعها منذ اكتشاف الوسائط الاجتماعية، تتحكم فيها أسواق الاستهلاك العام. لم يعد المقياس الحاسم هو الجودة والخصوصية الإبداعية ولا حتى شهرة الكاتب. شيء عميق يتغير في العلاقة الثلاثية الكاتب/ الناشر/ القارئ، ويجب التنبه له وأخذه في الحسبان. كاتب اليوم المعروف (التقليدي) هو ثمرة تراكمات داخلية كبيرة، إذ لا يصل الكاتب إلى الشهرة المبتغاة إلا بعد مراحل حياتية كثيرة، قارئه يتابعه لأنه يعرفه جيداً، وعاشره إبداعياً زمناً طويلاً. لم يأت طه حسين ولا نجيب محفوظ ولا حنا مينا ولا الطيب صالح ولا الطاهر وطار وغيرهم، من العدم. الناشر وسيط هذه العلاقة الثلاثية مادامت «الدجاجة تبيض ذهباً». العلاقة اليوم اختلت كثيراً؛ الدجاجة كفت عن البيض، بينما حركية المعارض تزداد انتشاراً وقوة بجيل آخر من الكتاب، جيل تحكمه شروط أخرى، منغمس في الوسائط بعمق. اقتربت من ذلك في معارض الرياض والدوحة والجزائر والمغرب، والشارقة، وغيرها من المعارض المهمة، هذه تتحدث عن المثلية، الآخر عن الجريمة، ثالث عن الجنس والجريمة، رابع عن زنا المحارم، خامس عن المافيا، وسادسة تقدم وصفة لقتل الزوج، كلها ثيمات تبدو غريبة وغير مستساغة للجيل التقليدي؟ لكنها لا تكفي، إذ تحتاج إلى وسيط يحملها ويقدمها للقارئ المنتظر من وراء المنصات. المئات من الشباب يصطفون في المعارض ليلتقوا بكاتبهم، وتوقيع روايتهم المفضلة التي تابعوها عن طريق الفيسبوك، أو التيك توك، أو الانستغرام، وسنابشات وغير ذلك، وكانوا أبطالاً افتراضيين فيها. عرف الكاتب كيف يشركهم في نصه، فهو يشبههم ويعرف حاجاتهم فيحاول إشباعها. تابعوه عبر الوسائط المختلفة ودخلوا معه في حوارات وسجالات حول ما يكتبه، بل أصبح نموذجهم. هذا كله ليس حكم قيمة، بل ممارسة يجب التنبه لها ومحاولة فهمها. وما ينتظرنا أكبر مع الذكاء الاصطناعي وChatGPT. لم تعد القيمة الثقافية والإبداعية هي المحدد الأساسي لجودة النص وشيوعه، بل في الحضور الكبير والواسع من النصوص التي نشرت على التويتر، والتيك توك، والفيسبوك، وتم تجميعها بذكاء وحنكة عند بعض الكتاب غير المعروفين، ولكن حنكتهم التقنية وضعتهم على الواجهة، فركض نحوهم الجمهور الذي يعد بآلاف وربما بالملايين، لدرجة أن الكثير من دور النشر تفكر أو حتى أنها فكرت في أن يكون لها كاتبها «التيكتوكي» الذي يبيض ذهباً حتى لو وصل بها الأمر إلى التخلص من كاتبها الذي لم يعد «مقروءاً». لهذا بدأت بعض دور النشر عالمياً وليس عربياً فقط، تبحث عن نموذجها في المواقع وتحسب عدد المشتركين لديه ومدة تفاعله معهم. قيمتك تحددها «اللايكات» والتعليقات. القراء صناعة تلك اللحظة الطبيعية التي غيرت أو هي بصدد تغيير العلاقة الثلاثية الكاتب/الناشر/ القارئ. الكاتب مثل قارئه، صناعة من عدد الأصدقاء الذين يملكهم والمتابعين الذين يشكلون حجر الزاوية. دار فرنسية عريقة هي في الأصل موزع، «هاشيت» وجدت في الكاتبة الجزائرية الشابة سارة ريفنس (إبراهيمي سارة، مواليد 19-01-1999) التي تكتب باللغة الفرنسية، دجاجتها التي تبيض ذهباً. تابعتها في المواقع فوجدت أن لديها قرابة العشرة ملايين متابع. كل ما فعلته الدار هي أنها تبنتها وأخرجتها من الوسائط وظلمة عالم الافتراض، في منصة واتباد Wattpad، إلى المجتمع المادي والورقي، فطبعت روايتها: «رهينة» وروجت لها بشكل مدهش، وفي ظرف وجيز انتزعت المرتبة الأولى في المبيعات في فرنسا قبل كبار الكتاب الفرنسيين في البيع: موسو، ومارك ليفي، وحتى سيرة الأمير البريطاني هاري التي كانت تحتل المرتبة الأولى. في شهور قليلة تجاوزت مبيعات الأجزاء الثلاثة من روايتها المليون نسخة، وهو أمر نادر بل مستحيل التحقق بالنسبة لكاتبة غير معروفة في وسائط التوزيع التقليدية. الرواية تباع اليوم بمعدل 5000 نسخة أسبوعياً. سارة كمثال فقط، لم تمر عبر القنوات التقليدية لإشهار كتابها، إذ اكتفت دار هاشيت Hachette LAB بنشر وتوزيع الكتاب وطباعته بنفسها، وعملت على تحريك جمهور قرائها على الشبكات الافتراضية وعلى منصة واتباد وتيك توك. حتى الحصص التلفزيونية التي استضافتها قليلة بالنظر للجمهور المتابع. هاشيت فضلت إبعادها عن الأضواء بعد أن لاحظت العدد الكثيف من الجمهور الذي ركض لأول مرة نحو «لافناك La FNAC « للقاء بالكاتبة وشراء ثلاثيتها، حيث اتضحت أن حسابات الدار نفسها كانت دون التوقع، فأمرت بسحب أكبر من الرواية للاستجابة للطلب المهول من جمهور القراء. لهذا نفهم جيداً نشر بعض دور النشر العربية لهذا النوع من الأدب الافتراضي، فهي في مرحلة اختبارية في عمومها، ولكنها تحتاج حتماً إلى استعارة تجربة «هاشيت»، أي اعتماد مختصين في المجال الافتراضي وتوظيفهم وتكليفهم بمهام البحث عن الكاتب «التيكتوكي» الذي يلد ذهباً. أما الكاتب «التقليدي»، فأجره على الله إذا لم يذب في الصيرورة المهيمنة، ويكون على قدر من الذكاء يضمن له البقاء مع استمراره في الدفاع القيم الذي نذر نفسه له: معادلة صعبة.