يخدع بعض الكتاب قراءهم بامتياز، حين يلعبون معهم لعبة غير نظيفة، لا تنبع من رغبتهم في الكتابة بقدر ما تنبع من مجرد رغبة لتغطية الورق بالمفردات اللازمة والمعنى المطلوب إيصاله، تكتب هذه الفئة من أجل المال، وهي ليست بالضرورة أقلاما مأجورة لجهات سياسية، إذ ثمة جهات أخرى تحتاج دوما لمن يعبّر عن أهدافها، وأفكارها.
يعكس ما يحدث محتوى الحكمة الإسبانية «يأتي الشرف والربح في الحقيبة نفسها» لكنّه في الوقت نفسه يكشف سر الحالة المؤسفة للأدب اليوم، ليس فقط على المستوى العربي، بل على مستوى العالم أجمع، كون الكِتاب تحوّل مع الأيام إلى مادة ربحية، كلما كانت أقل جودة، وفي متناول القارئ البسيط، الذي يعتقد أن الأدب من مواد التّسالي، زاد الإقبال عليها.
في الغرب ـ والظّاهرة تزحف إلينا بسرعة كبيرة ـ كل من يحتاج إلى المال يبدأ بكتابة مجلّد، يقترح الناشر موضوعا على كاتبه، بعد أن يدفع له دفعة تحت الحساب، وهكذا تبدأ عملية الكتابة، وكأنّها عمل أوتوماتيكي، يغذيه المال. يصف أحد النقاد الألمان هذا الوضع «بجمهور الحمقى والكُتّاب المفرغين من الشغف» وقبل التّحسس من هذا الوصف الجارح للفئات القارئة، يعيدنا إلى زمن الكتّاب العظماء الذين كتبوا أعمالهم الخالدة من أجل لا شيء، أو من أجل مقابل زهيد، ويضيف أن «عددا كبيرا من الكتاب الأشرار يكسبون رزقهم من حماقة الجمهور». وعلى هذا الأساس يصنف الكتّاب إلى ثلاث فئات، فئة تكتب بدون تفكير، وهي الفئة الأكبر، وأخرى تفكر وتكتب، وثالثة وأخيرة تفكر طويلا ثم تكتب، وهذه الفئة النادرة تشكّل الأدباء الحقيقيين.
ركام الكتب في المكتبة العربية يكشف الفئات الثلاث، الفئة الواسعة الانتشار، التي لا تهتم بجماليات اللغة، ولا حتى بجمالية الفكرة، إنّها تكتب من أجل الرّاهن، وما يدوي سريعا مثل السبق الصحافي الذي يشغل الناس عدة أيام ثم ينطفئ، من يتذكر منكم ردينة الفيلالي؟ التي قدمت للجمهور العربي عبر فضائية لبنانية من خلال برنامج للمنوعات، يستهدف جمهورا لا علاقة له بالأدب، فخرج في اليوم الثاني متعطشا للشعر الركيك الذي قرأته بمؤثرات الصورة والصوت، ونفد الكتاب في ظرف ساعات، مسجلا رقما قياسيا في المبيعات!
أصبحت ردينة شاعرة العرب الأولى، ولو أنها أصدرت كتابا آخر لحقق النجاح نفسه، لكن الإعلام أراد صنع أسماء أخرى، فأطلق شعراء آخرين، وكتّابا من خلال برامج أخرى فاجأت الجمهور نفسه، وكأن المسألة مجرد مسألة ذكاء تسويقية لا غير. نعم هؤلاء أيضا يفكرون لكنهم يفكرون في «المطلوب»، ويقومون بتغطية البياض بتوقعات المبيع المرتفع، يضعون اللغز في بداية العمل القصصي، تليه العقدة التي تثير الفضول، يجدون المكان المناسب للقُبلة والعناق، واللحظة المثيرة لممارسة الجنس، بشكل مدروس يضعون خطّة دقيقة لكل ما يحرّك المشاعر، ويوقظ الهوامات الجنسية، وغرائز الخوف والقلق، ألم يفعل الكاتب الفرنسي غيوم ميسو ذلك؟ بعد فشل كتابه الأول، فسافر إلى أمريكا لتعلم تقنيات الكتابة الناجحة، الكتابة التي تجلب المال والشهرة، فنجح كما أراد، أليس كاتبا نجما اليوم؟ وهو واحد من مجموعة كبيرة من الكتاب، يفكرون في اقتناص القارئ، وكأنهم خارجون في رحلة صيد، وهم مهيأون بالعدة والعتاد اللازمين لها. هذا لا يحدث مع كاتب حقيقي يسكنه شغف الكتابة، وعشقها الخالص، حين تغمره سيولة اللغة والأفكار في يقظته ونومه، في انشغاله وتفرغه، فيبني هرم نصه في رأسه، منتظرا اكتماله قبل الانصياع بشكل كامل له لإخراجه في أبهى حلله لقارئه.
غابت الصحف الأدبية، قبل بلوغنا هذه المرحلة من الضلال أو التضليل، وهذا يعني أن تدفق الكتب التي لا معنى لها سيزداد، وهذا يعني أيضا أن «الكتابة الخادعة» ستزدهر، وأن الجمهور «الأحمق» سيفرض سلطته على الذائقة العامة
هذا يحدث حين تكون الكتابة جزءا روحيا من الكاتب، لا تفسير لذلك ولا دافع، لا مال ولا جاه في انتظاره ولكنّه يكتب من أجل عشق قد يأخذه للتهلكة، مغامرة الكاتب الحقيقي تختلف عن مغامرة الكاتب «الشرير» الذي يتسلق المجد ويحصد الجوائز والمكافآت والأموال، بدون اعتبار لمحنة القارئ الذي يتحوّل إلى ضحية له. نتحدث عن العشق كتملّكٍ غريب يستولي على الكاتب بدون رحمة، فيحمل مخطوطه وهو يعرف تماما أن مصيره غامض، ينشر الكتاب بصعوبة، بعد إيجاد ناشر مجنون يؤمن بالمغامرة نحو أرض مجهولة لا مكاسب فيها، يخرج الكتاب فتغطيه ظلال الكتب التجارية لسنوات… هذا هو الحال البائس للأدب، حيث غالبا ما يفوز الكتاب الذي يثني عليه الرّفاق في المنابر الإعلامية، لكاتب لا يجتهد كثيرا في الكتابة، بقدر ما يجتهد في بناء علاقات متينة في الوسط، لا يبحث عن موضوعات جديدة لتقديمها للقارئ، بل يبحث في كتب قديمة عن نجاحات غيره، ويعيد صياغتها بطريقة مختلفة، قد تكون سيئة وضعيفة، ولكن الناس لا ترى سوى المجد القديم، وذلك لا يختلف عن قراءة نص جميل لطه حسين مثلا، ثم إعادة صياغة نصه من طرف تلميذ نجيب في صف البكالوريا فينال به علامة ممتاز.
هكذا هي بالضبط بعض خطط الكتابة الجديدة، إنها تقديم كتب تحمل كتبا أخرى، سرقات مباركة بأسماء مبتكرة، لتناسب سوق الكتاب في زمن شح الأفكار. أتساءل أحيانا عن تقنية العناوين المواربة التي تحيلنا لعناوين سابقة، تلك التي فيها آثار سرقة نصف عنوان، أو إيحاء إليه، هل هي إشارة إلى عقم ما في عملية الإبداع؟ الذي لا يستطيع أن يبتكر عنوانا ويتكئ على غيره لإيجاد مدخل لعمله، كيف نثق في متنه الروائي أو القصصي؟
كل هذه الادعاءات تضعنا في مواجهة المنجز الأدبي اليوم، وفعل الكتابة كفعلٍ منتجٍ، وعن قيمة ما يُقدّم لنا بهذه الكثافة، هل نحن أمام انتهاك حرمة الأدب؟ أم أن اتساع التجربة وإنتاج الكثير منه ظاهرة لها إيجابياتها؟
خطورة الرّواج لعمل معين تكمن في وضع مقاييس معينة، ليست أكثر من مبادئ كاذبة، تجرٌّ ما يُنتَج كله للخضوع لكشف ظالم، ينتهي بعملية فرز غبية، تصنف هذا بالناجح وذاك بالفاشل، تقريبا في كل عصر يحدث هذا، فتؤجل الأعمال الجيدة الملقاة خارج مقاسات الرواج، إلى حين انطفاء أنوار الاحتفالات الكاذبة، لتبرز متأخرة، وتعاد قراءتها بتأنٍ وتركيز وإنصاف.
لقد غابت الصحف الأدبية، قبل بلوغنا هذه المرحلة من الضلال أو التضليل، وهذا يعني أن تدفق الكتب التي لا معنى لها سيزداد، وهذا يعني أيضا أن «الكتابة الخادعة» ستزدهر، وأن الجمهور «الأحمق» سيفرض سلطته على الذائقة العامة، وهذا أمر لا ينبئ بالخير، فحين تصبح بكل قدراتك العقلية ومواهبك وطموحاتك مسيّرا من طرف الأغلبية الجارفة التي لا تعنيها إمكانياتك وطاقاتك، فتأكد أنك دخلت مجبرا الطريق المعبّدة بجرّافة المال، وأن لا مكان لك بعد فترة وجيزة. هكذا يأتي الإقصاء، فتتغير ملامح أي مشهد أدبي، في عملية مسخ غريبة، تبدأ بالأدب وتنتهي بمسح (بالحاء) الجماليات المنبثقة منه، قد تسيء لكل الفنون. بتعبير آخر وأعمق قد نبلغ مرحلة إخصاء ومراوغة وغموض، واستحالة وضوح في التعبير، وتضييق على الحريات، إنّه بدون شك مسلسل مستمر ما لم تُكسر إحدى حلقاته، لإيقاف نزفه وعدواه…
لكن هل يمكن تدارك الأمر؟
يبقى على عشاق الكتابة أن يصمدوا ويحاربوا بجودة نتاجهم، ضبابية المشهد الذي صنعته خربشات الكتاب الذين يحبون فقط تغطية البياض.
٭ شاعرة وإعلامية من البحرين
شكرًا على الاختيارفي كتابة هذا المقال…وهو يذكّرني برؤية الكاتب الفرنسيّ رولان بارت في دعوته عن عقد القران ( المقدّس ) بين المؤلف والقاريء المثقف من خلال رابطة النصّ ؛ فيما سمّي بموت المؤلف من أجل ( لذة النصّ )…وصولًا لتحقيق القراءة التي تجعل المكتوب بدايات مشوّقة لا تنتهي بنهاية قراءة النصّ ذاته.فتكون أشبه بالقراءة الدائريّة ؛ تبدأ من نقطة مفتوحة لتواصل الدوران حول كوكب الكتابة ؛ فيكون القاريء والكاتب كلاهما : قلم ورؤية ولذة واحدة لا تنتهي بالصفحة الأخيرة…وهذا الذي يحقق ديمومة الكتابة أوالنصّ.وهكذا تتشّكل الأبعاد والمفاهيم الثلاثة : مفهوم النصّ ومفهوم عمليّة الكتابة ومفهوم القاريء.حقًا الكتابة عقد مقدّس بين الكاتب والقاريء ؛ إنْ وجدا معًا في بيئة مشتركة ؛ والعالم اليوم بيئة واحدة متصلة…
لكن ياسيدتي الآن لدينا قاريء مبرمج ( ولا نستخدم لفظة أخرى ) وبالتالي الكاتب يبحث عن الغنيمة الكبرى لمواجهة أعباء وتكاليف الحياة وسط عرض وطلب الحمقى.الكتابة اليوم سوق يقوم على الاستثمارات لتغطية الاحتياجات ؛ لا الإبداعات…كقاريء عربيّ لم أستمتع برواية عربيّة جيدة منذ قراءة رواية عزازيل لكاتبها : يوسف زيدان ( 2009 ) رغم الضخ الإعلاميّ لهذا وذاك وذيّاك…فعلًا الكثيرمن الكتابات أصبحت تسويد للصفحات البيضاء حتى على مستوى المقالات…لقد ذهب زمان الجاحظ الذي ( مات ) تحت ركام الكتب من أجل شغف المتعة…وقالوا : الأدب والفنّ من أجل الأدب والفنّ ؛ أم الأدب والفنّ من أجل الحياة.وأرى أنّ ثمة ثالثًا يقوم على هندّسة النظم كالوشم ليسمّى الأدب والفنّ من أجل القيمة.إذن ثمة الكاتب الذي يكتب لتغطية الورق فقط ؛ لكن الورق ( أشكال ) : فهناك ورق الرق وورق الحمام وورق الشجر وورق اللوح المحفوظ.