كانت البداية في منتجع بيلرين السويسري، حيث التقى في 1947 مجموعة من المثقفين والأكاديميين حول الفيلسوف النمساوي فريدريك فون هايك، صاحب كتاب «مكون الحرية». بين المجتمعين، كان لودفيك فون مايزس، عالم الاقتصاد النظري النمساوي، والفيلسوف النمساوي – البريطاني الأشهر، كارل بوبر، صاحب «المجتمع المفتوح وأعداؤه»، الكتاب الذي لعب دوراً ملموساً في المواجهة الفكرية مع الشيوعية (ويقال أن السي أي أيه كانت توزع نسخاً منه، أثناء الحرب الباردة، وعلى نطاق واسع، سيما في أوروبا الشرقية)، وأستاذ الاقتصاد الأمريكي الشاب، من جامعة شيكاغو، ميلتون فريدمان. عرف كافة أعضاء المجموعة بعداء لا يساوم للشيوعية، فكراً وأنظمة، وقد هالهم ما انتهت إليه الحرب العالمية الثانية من توسع كبير لسيطرة الكتلة الشيوعية في القارة الأوروبية. ولد من اللقاء جمعية نخبوية، عرفت باسم «جمعية مونت بيلرين»، أخذت في الاجتماع بعد ذلك بصورة دورية. بعض ممن التحق باللقاء الأول غادر بعد ذلك، وأعضاء جدد التحقوا في السنوات التالية.
أشار البيان التأسيسي للجمعية إلى «إن القيم المركزية للحضارة معرضة للخطر. فعلى مساحة واسعة من سطح البسيطة، تختفي الشروط الضرورية لكرامة الإنسان وحريته. في مناطق أخرى، تتعرض هذه القيم لتهديد مستمر بفعل التطورات الراهنة في اتجاهات السياسة. إن مواقع الإنسان الفرد والجماعات الطوعية يجري تقويضها من قبل قوى غاشمة. وحتى أثمن ما يملكه الإنسان الغربي: حرية التعبير والتفكير، أصبح مهدداً بفعل انتشار عقائد، تدعي التسامح وهي في موقف الضعف، ولكنها تسعى للتفوق والقوة والسيطرة، بحيث تتمكن من إبادة كل وجهات النظر المخالفة.
تؤمن هذه المجموعة أن هذه التطورات ولدت من نمو تصور للتاريخ، ينكر كل القيم الأخلاقية المطلقة، ونمو نظريات تشكك في مردود حكم القانون. كما تؤمن هذه المجموعة، إضافة إلى ذلك، أن هذه التطورات قد ولدت أيضاً من انحدار الإيمان بالملكية الخاصة والسوق التنافسي؛ لأنه بدون توزيع القوة المصاحبة لهذه المؤسسات، من الصعب تصور الحفاظ على الحرية في المجتمع».
حمل بيان مونت بيلرين واحداً من أبلغ المواقف المناهضة للشيوعية من قبل مجموعة من أبرز فلاسفة الغرب الليبرالي مثقفيه وأكاديميه. قدم أعضاء مونت بيلرين أنفسهم باعتبارهم ليبراليين، يؤمنون بالقيم الأساسية لليبرالية الغربية ومثالها الحر. ولأنهم تماهوا مع النظرية الاقتصادية الكلاسيكية الجديدة، كما عبر عنها الفرد مارشال ووليام ستانلي جيفونز وليون مالراس، (في مواجهة النظرية الكلاسيكية، التي استمدت من آدم سميث وديفيد ريكاردو وكارل ماركس)، أطلق عليهم لقب الليبراليين الجدد. ولكن، الليبراليين الجدد لم يتنكروا كلية لآدم سميث، وتعاملوا مع ميراثه بصورة انتقائية. أعلى الليبراليون الجدد، على سبيل المثال، مما وصفه سميث بـ «يد السوق الخفية»، التي اعتقدوا بقدرتها على إطلاق غرائز الإنسان البدائية في الجشع والإشباع والبحث عن الثروة، التي نظروا إليها باعتبارها قوى لصناعة التقدم والرفاه الاقتصادي. وكان طبيعياً أن تعارض مجموعة مونت بيلرين نظريات دور الدولة التدخلي في المجال الاقتصادي، مثل تلك التي ارتبطت بجون ماينارد كينز في بريطانيا، و»الصفقة الجديدة»، التي رسمت سياسات روزفلت بعد انهيار الثلاثينات الاقتصادي.
خلال العقود التالية، جذبت المجموعة انتباه، ومن ثم دعم، عدد من رجال السياسة والمال والأعمال على جانبي الأطلسي. واعتبر معهد الشؤون الاقتصادية (Institute of Economic Aairs) في بريطانيا، ومؤسسة التراث (The Heritage Foundation) في الولايات المتحدة، قاعدتين رئيسيتين للترويج لمقولات مونت بيلرين. كما بدأ عدد من الاقتصاديين الشبان من تلاميذ المجموعة في احتلال مواقع أكاديمية في عدد من كليات الاقتصاد والسياسة في جامعات بريطانية وأمريكية، إضافة إلى كلية الاقتصاد بجامعة شيكاغو، التي جعل منها ميلتون فريدمان معبداً لليبرالية الجديدة.
ولكن المجموعة، كما يشير ديفيد هارفي في كتابه «الليبرالية الجديدة»، الذي تحول إلى مصدر كلاسيكي لقراءة تاريخ وتطور الاقتصاد الليرالي الجديد، ظلت هامشية نسبياً طوال العقود الثلاثة التالية على تأسيسها، بدون أن تترك أثراً كبيراً على توجهات السياسة والاقتصاد والثقافة الغربية. هذا، بالطبع، لا يعني التقليل من أثر عدد من الاعضاء المؤسسين، بصفتهم الفردية، مثل هايك وبوبر. لم تكمن مشكلة مونت بيلرين في طبيعتها النخبوية، ولا في أنها احتاجت بعض الزمن قبل أن تترك بصماتها على طلاب الاقتصاد ودوائر السياسة وصناعة القرار. مشكلتها كانت في إجماع ما بعد الحرب الثانية الغربي، الذي قال أن «دولة الرعاية الكاملة» ضرورة حيوية لمواجهة الدعاية الشيوعية ومنع الكتلة الشيوعية من التوسع في الغرب الأوروبي. من وجهة نظر مونت بيلرين، اعتبرت «دولة الرعاية الكاملة» خصماً أيديولوجياً لحرية السوق وقواه، وخضوعاً مبتذلاً أمام الابتزاز الشيوعي. ما أرادته مجموعة مونت بيلرين هو تفكيك سياسات «دولة الرعاية الكاملة»، إطلاق يد القطاع الخاص، تقليص الإجراءات والقوانين التي تحد من حرية الأسواق المالية وعلاقات العمل، وفتح الأبواب لحرية التجارة الدولية وانتقال رؤوس الأموال عبر الحدود.
أتاح تطوران هامان في السبعينيات من القرن الماضي فرصة تاريخية أمام الليبرالية الجديدة: تمثل الأول في الأزمة الاقتصادية التي أطلق ارتفاع أسعار النفط شرارتها، والثاني في تراجع مخاوف الكتلة الغربية من الخطر الشيوعي. في 1974، منح هايك جائزة نوبل في الاقتصاد، وفي 1976، منحت الجائزة لفريدمان. وبوصول ريغان إلى البيت الأبيض وتاتشر إلى دواننغ ستريت، أصبح لليبرالية الجديدة حلفاء مؤمنون في اثنتين من أهم عواصم العالم وأكثرهما تأثيراً في المنظومة الاقتصادية والمالية الدولية. وسرعان ما التحق بالموجة الجديدة نظام بينوشيه في تشيلي، وأوزال في تركيا (الذي وصفته تاتشر بأنه «واحد منا»)، وسوهارتو في أندونيسيا؛ ثم بدأ النموذج في التوسع عبر الاقتصادات الآسيوية الصاعدة (وحتى دينغ هيسياو بنغ لم يخف إعجابه)، واقتصادات أمريكا اللاتينية، ودول عالمثالثية أقل أهمية في موازين الاقتصاد العالمي، مثل مصر. كسرت إرادة نقابات العمال في اضراب عمال شركات الطيران الأمريكية ونقابة عمال الفحم البريطانية، وتراجعت مكاسب الطبقة العاملة في كافة أنحاء الأرض تقريباً. أخذت الدول في بيع ممتلكات القطاع العام بأبخس الأسعار، وأصبح من الممكن لشاب صغير، يعمل سمساراً في شركة مالية بريطانية أو أمريكية أو صينية، أن يحقق، خلال عام واحد، ثروة تفوق ما كان يمكن لمصنع أن يحققه خلال عقود.
لم يتطلب الأمر زمناً طويلاً لانكشاف هشاشة النموذج وخطره. فخلال سنوات قليلة من نهاية التسعينات، انهار الاقتصاد التركي، وتبعه الاقتصاد الأندونيسي، كما اقتصادات دول شرق آسيا وأمريكا اللاتينية، الواحدة منها تلو الآخرى. ولكن النموذج الليبرالي الجديد أصبح عقيدة وديناً، أكثر منه سياسة براغماتية. عندما تولى توني بلير الحكم في 1997، باسم حزب العمال الجديد، اتبع سياسة لا تقل ليبرالية عن مارغريت تاتشر. وكذلك فعل كلينتون في الولايات المتحدة. كان ثمة شعور فادح بالنصر في دول الكتلة الأطلسية، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي والكتلة الشيوعية؛ وفي حمى هذا الشعور، ظن كثيرون أن تحول السبعينيات نحو الليبرالية الجديدة، كان عاملاً رئيسياً في صناع نصر الحرب الباردة. في 2008، دخلت الاقتصادات الغربية، بداية من الولايات المتحدة، أزمة اقتصادية متعددة المراحل، لم تخرج من براثنها بعد.
قبل أسابيع قليلة، نشر مارتن جاك، آخر رئيس تحرير لمجلة «الماركسية اليوم»، مقالة طويلة في الأوبزيرفر البريطانية، بعنوان «موت الليبرالية الجديدة»، رصدت مظاهر فشل النموذج، داخل الغرب الأطلسي وخارجه. بعض من الأرقام التي أوردها جاك تقدم دلالات بالغة على الخطر الاجتماعي ـ السياسي الذي تمثله الليبرالية الجديدة. ففي الحقبة من 1917 إلى 1948، نما دخل العشرة بالمئة من أفقر الأمريكيين، ومتوسط دخل عموم الأمريكيين، ودخل العشرة بالمئة الأعلى في السلم الاجتماعي، بصورة متقاربة (نصف، وواحد، وواحد ونصف، على التوالي)؛ وكذلك في الحقبة من 1948 إلى 1972 (اثنان ونصف، اثنان وستة أعشار، واثنان وسبعة أعشار، على التوالي). في الحقبة من 1972 إلى 2013، حقبة هيمنة النموذج الليبرالي الجديد، كانت الأرقام كالتالي: هبط دخل العشرة بالمئة الأضعف إلى ما تحت الصفر، وارتفع الدخل المتوسط بأقل من النصف بالمئة، بينما ارتفع دخل العشرة بالمئة الأكثر ثراء بما يقارب الواحد والنصف بالمئة. هذا في الولايات المتحدة، أما في دول أوروبية وآسيوية وأفريقية أخرى، فقد أصبحت الأزمة الاجتماعية أكثر فداحة.
بمعنى أن الليبرالية الجديدة لم تؤسس لسلسلة من الأزمات، التي يمكن أن تطيح حتى باقتصادات أكبر دول العالم، وحسب، بل وصنعت فروقاً اجتماعية هائلة بين الفئة الصغير الأكثر ثراء، وباقي المجتمع. وعندما تتسع الفروق الاجتماعية بهذه الصورة، تبدأ الثروة والقوة معاً في التمركز، وتفقد الديمقراطية وقيم الحرية، التي ولدت مجموعة مونت بيلرين للدفاع عنها، معناها.
٭ كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث
د. بشير موسى نافع
“القارعة الكبرى” تكون عندما تصير الدخول المحدودة سببا في انكماش الطلب ،عندها تتحرك الدوائر الليبرالية لدعمه بضخ القروض إلا أنه مع انعكاسات اﻷزمة المالية لم يعد من الممكن تمتيع المستهلك بتراخي أنظمة القروض كما كان اﻷمر من قبل الأزمة. وأمام الاختناقات أصبحت بعض الحلول تأتي من الاقتصاد التضامني. والمثير في بعض هذه الحلول تلك التي تحاول توظيف نوع جديد من “النقود” تعرف بالنقود المحلية التكميلية.. كردة فعل -أوإن شئنا ثورة- على النظام النقدي الرسمي