هل حقيقة، تنهض الكتابة بوصفها الوطن الأبقى لأنها تنشأ خارج مدارات الكائنات الحية؟
تأكدت بعد أربعين سنة من حرفة الكتابة، أن الموت الذي ينهي صاحبها جسديا، لا يمسها لا بالشيخوخة ولا بالموت. وفاء القارئ في هذا كبير وحاسم. فالقارئ ليس كيانا ضافيا، وليس تكملة لمشهد يصنعه الكاتب، فهو فاعلية حقيقية كيفما كانت ردة فعله. والكِتاب ليس أكثر من مساحة نور مشتركة ليتذكر القارئ والكاتب معا، كم أن العالم الذي يعيشانه معقد وجميل. عالم يعيشنا ويصنع بعيدا عنا وفي غيابنا القسري، لنا كل الحق الإنساني فيه. لسنا العجلة الخامسة التي لا تستعمل إلا عند الحاجة. نحن نحب الحياة أيضا مع قرائنا، ونحب الرقص والحدائق والأسفار، لو فقط نجد من يذكّرنا في غمرة الرماد، بأن الحياة ما تزال جميلة وتستحق أن تعاش. الرواية لا تربي اليأس. حتى وهي في عمقه، تفتح الحياة على أخطر سؤال: ماذا نفعل في هذه الدنيا؟ هل خلقنا لنكْبُر قليلا وننتظر الموت بعدها؟ بينما الحياة تشرّع الأبواب المغلقة في أوجهنا، على الممكن الذي تغطيه أكوام الغبار والرماد والخطابات الرسمية الزائفة. الكتابة استراحة تحت شجرة الحكاية. نغمض أعيننا أحيانا لنحس بها تتحرك فينا كالجنين. دهشة تصيبني إلى درجة الدوار، كلما عثرت على ما ينجزه القراء من روح ما نكتب، صورا تجسد رحلة عشقية سيدتها اللغة الهشاشة والحكاية الخفية. هل للكتابة كل هذا السحر في نفوسهم حتى تدفع بهم مجموعة حروف هاربة وغامضة أحيانا، إلى تكوين صداقة مع شخص كثيرا ما يصنعونه هم أنفسهم من حنينهم ورؤاهم وأحلامهم، وتعطشهم لشوق وحدهم يحسونه بتلك الطريقة وليس بغيرها. بل أكثر من ذلك. كثيرا ما تلقوا الضرب من الأخ الكبير، البنات على وجه التحديد، بسبب رواية يحملنها في أيديهن، لأنها تنكس رايات الشرف الكاذب والأخلاق التي لا يتذكرها سدنتها إلا في الكتابة والفنون، وينسونها في حياتهم اليومية وفيما يشاهدونه من خلاعة، يتبادلونها سرا في الهواتف الذكية. هؤلاء القراء والقارئات، أدخلوني بلا موانع إلى بيوتهم، شربت معهم قهوتهم الصباحية، وعرفت بعض أسرارهم الصغيرة، بكيت شجنهم، تأملتهم وهم يعانقون رمال السواحل وملح البحر. عرفت لون ألبستهم التي يشتهون، وشممت عطر أسرتهم الضيقة أو الواسعة، عانقتهم عبر كتاب، في الليالي الباردة أو ساعات اليأس الذي لا يبقي أية مسافة نحو الحياة. بسبب كتاب أنشأت برفقتهم صداقة كبيرة وحياة لم نخطط لها من قبل. أينما كنتم… في قلبي أو خارجه. أينما كانت أنفاسكم الطيبة، تحت التراب أو فوقه، فقد فقدت في السنوات الأخيرة عددا كبيرا من الذين قادتنا الكتابة وقسوة الحياة، إلى أن ننام سويا تحت شجرة الحكاية ونهرب قليلا نحو مسالك اللغة التي لم يرتدها أحد لا قبلنا ولا بعدنا. أينما كنتم، من الذين التقيت بهم في الخلوة أو في الأمكنة العامة، ومن لم يُكتب لي أن ألتقي بهم وما زلت أمني النفس برؤيتهم من شدة إعجابي بحكاياتهم عن حكايتي، أنحني لهذا السحر الذي يصنعونه لي كل يوم بمحبتهم وجهودهم وتضحياتهم وحنينهم الغامر. سلام لكم جميعا، هنا في مساحة الشوق والورق وعطر الحبر، حيث لا سلطان يدركنا إلا سلطان اللغة البهي، وسحر الكتابة التي لم تعد مجرد جهد عابر في الزمان والمكان ولكنها أصبحت وطنا وهوية. زهدا ليس غريبا، ففي الكتابة كما في بقية الفنون الأخرى، تساؤلات كثيرة لا تفضي دوما إلى أجوبة مقنعة، وسحر خاص، لا ندرك مصدره بدقة إلا مع الزمن. ومع ذلك نستمر في الكتابة حتى لو لم يسمعنا الآخرون، لأن يقينا ما فينا بعمق، يرفض أن يستسلم للسهولة. هل نكتب لأننا نريد أن نعبِّر عما فينا من حرائق، وأن نوصل صوتا نشعر بأن هناك، في مكان ما، من يهمه أمره؟ أم نكتب لأننا نريد أن نخرج من ظلمة الجماعة لنتفرد، ونصبح شخصية خارج دائرة العام؟ هل نكتب لأننا نملك طاقة ضافية لا نريدها أن تضيع، وندرك بالقلب والحواس العميقة أن لها مستقرا في زاوية ما قد تكون اللغة مثلا، ونتقاسمها بالقصد أو بالصدفة، مع من يريد ذلك؟ ربما نكتب أيضا لأننا بكل بساطة لا نعرف القيام بشيء آخر لنكون؟ أن نكون أو نتلاشى في الآخرين. أسئلة تظل معلقة إلى أن نصل إلى إهمالها مع الوقت، أو تخزينها، وتصبح الكتابة في النهاية هي عنواننا الأوحد، وندخل فجأة في أسئلة غيرها أشد كثافة وعنفا أحيانا. مثلا، كيف نصل إلى أعالي قمم الأولمب لنسرق النار المقدسة؟ ما الذي يميز كاتبا عن آخر؟ ما هي الآلية التي تجعل هذا يصل بسرعة البرق بموهبة متوسطة، وأخر لا يصل أبدا، أو يصل ببطء؟ هل هي الكتابة نفسها وآلياتها؟ الموضوعات؟ سلطان الإبداع وقانونه؟ كثرة الاعترافات الدولية والجوائز التي تنام على الحيطان، أو في الخزانات التي احتوت كل جهده على مدار عمر بكامله؟ أم شيء آخر يكاد يكون زئبقي الحركة، لا يمكن تأطيره بسهولة؟ مثلما للعالم هويته التي ترفعه إلى أعلى المقامات، وهي اكتشافاته واختراعاته ومنجزه العلمي، هوية الكاتب هي وطنه. وطن بسعة الحلم، كلما وُضِعت له حدود وأسوار، وأسلاك شائكة، هدمها، وقطَّعها، وعبرها، حاملا في جسده العام وذاكرته بجراحاتها الكثيرة. وطن الكتابة، ليس هو الوطن المشترك الذي يتقاسمه مع الجميع، لأن به تربة الأجداد ورفاتهم وحكاياتهم القديمة التي ما تزال تسري في الذاكرة الجمعية. هذا الوطن ملكية عامة ليس لأحد حق احتكارها وحرمان الآخرين منها، مهما كان مقامه أو رتبته. التربة للميت والحي. الأمر يتعلق بوطن لا يمكن أن نعثر عليه إلا عند واحد وحيد، من يشكله ويمنحه الحياة والاستمرارية حتى حينما يدق ناقوس الموت على أبوابه. هو الوطن الأكبر والأمثل بالنسبة لكاتب اختار رفقة الحروف ومجالستها ليال متتالية، يفنى هو في النهاية من شدة الإنهاك كما بقية الكائنات الهشة، وتستمر هي وطنا شامخا، بلا خوف من الفناء لأنها مستعصية عليه، بهوبتها الدائمة والخالدة.