هل ثمة وجود خارج الكتابة؟ وهل يمكن للكائن أن يحفظ شاراته وشيفراته وقوة ملفوظاته الرمزية في صندوق شخصي، أو عائلي ليبرر وجوده بين الجماعة، أو أن يستعملها كشهادة للوجود ولحسن إثبات السيرة والمعنى؟
هذه الأسئلة الافتراضية مدعاة لأن تجعل الكتابة هي الوجه الآخر للشخص، ولبدء تاريخه، بوصفها قوة مؤسِسة للتدوين، وداعمة للشخصنة، والحميمية، وللذة التمثيل الفيتشوي، وصناعة الخطاب، ووضع العالم في دفتر مدرسي، وهذا ما يجعلها تملك وجودا نظيرا، وربما تبدو الأقرب إلى فضاء العلامات الذي يقود للخلاص، أو للورطة الساحرة، أو أن يكون محاولة غاوية لاختزال العالم في اللغة، أو في جعلها تمرينا على المواجهة والاحتجاج، أو الركون إلى الصمت، إذ تتحول الكتابة إلى جنس يتيح مجالا من الحرية كما يقول بول ريكور، حيث الرغبة في تدوين الوجود وفي السيطرة على الطبيعة، وفي إعادة توصيف وتعريف الكائن الأنثروبولوجي عبر توثيق عاداته وأساطيره وطقوسه وعلاماته، وهذا ما يجعلها أكثر نزوعا «للتشطيب» العبارة لريكور، على مستوى المغايرة والمغامرة، وحفظ الأثر، أو على مستوى الانفتاح على مقتربات المعرفة والسرد والتخيّل، ومنها الفلسفة التي وجدت في الكتابة مجالا لتوثيق المفاهيم، في استعمالها أو في وضعها في سياق صناعة الأسئلة، حيث تجديد الخطاب، وحيث مراقبة تحولاته، بوصفه نتاجا للاشتباك المفتوح مع المعنى في الدين والعلم والمعرفة وفي مرويات الجماعة، إذ لا معنى للوجود بدون المعنى، وبدون المراقبة، وبدون صناعة النصوص.
الكتابة في هذا السياق هي مجال لحفظ العلامات، وواسطة لاستعمالاتها ومعرفة اتجاهاتها، فضلا عن كونها خزانة لحفظ التاريخ الذين يدونه الفرد أو الجماعة أو السلطة، وأحيانا حبسه وصيانته في الظاهر كما يريد النصوصيون، أو انتهاكه بالتأويل، كما تريد جماعة الرأي. وهذا ما يعطي للكتابة أهميتها الخطيرة، فمع بدئها ابتدأ التاريخ، وكينونة الإنسان العارف الذي يدوّن وجوده، ولا أحسب أن هناك «تاريخا» بالمعنى القرين بالسلطة والنص والتأويل والحكم خارج سلطة الكتابة، فهي بمعناها الأداتي والاتصالي تحولت إلى واسطة وطريقة للتعبير عن آليات إيصال وحفظ المصالح والحاجات والحقوق، لكن أن تكون الكتابة همّا استثنائيا وعميقا، وسرا لإدارة شهوات التعرّف والتلصص والتجاوز، فهذا ما يُعطيها وظائف خارقة، حيث الاستعارة والمجاز والتورية والقناع والتنبيه والسخرية والانتهاك والتمثيل، وحيث ما يجعل فاعليتها في توصيف العقل الأداتي أكثر تمثيلا لمعايشة استعمالية، حيث تكون – الكتب الرسمية، الكتب المدرسية، كتب القانون والطب والهندسة – كتب الطبخ، كتب الأزياء، كتب السير والمغازي والأسحار، حافزا للتعلّم ولتغيير أنماط التعبير والتفكير، وصولا إلى فاعلية العقل التواصلي بالمعنى الهبرماسي، حيث التجوهر الكينوني، وحيث الحيازة والاشتباك مع كتب اللذة، والدين، والسحر والأدعية والرقى والتعازيم، وحيث الشعر- الفن الأكثر خباثة – والأكثر شبقا في الاعتراف، والانزياح في الاستعارة، وفي الإبانة عن الخلود وفي صناعة ارستقراطية اللغة، أو في « تثقيب العالم» وتفخيخه، وتهريبه.
خطورة الكتاب تكمن في أنه مجال صياني لمحتوى الكتابة، أي إنه إطار حيازة وحفظ للأثر والشهادة والوثيقة، وحين نراجع تاريخ حرائق الكتب سنجد أنها حدثت لأسباب سياسية، وبمرجعيات تقوم على كراهية الآخر، أي كراهية وجوده وأفكاره.
الكتابة والهروب من النسق
الكتابة في السياق الثاني هي هروب من «النسق إلى الذات» كما يسميها عمر مهيبل، إذ هي صنو وجود الذات في العالم، حيث اعترافها وحميميتها، وحيث لعبتها في تدوين الاختباء، وفي تفكيك التاريخ القديم للشفاهية، وفي رفض تسويغ العالم عبر السحر والطقوس والأصوات والشهوات، أو حتى في تمرير المعنى القسري عبر «خرم» الخطاب، حيث تكون الكتابة هنا نوعا من الصيانة، ومواجهة فائقة الخطورة لسلطة «حارس البوابة» الذي يراقب الخطاب والهتاف والبوح. ورغم أن الكتابة قد قتلت الكثيرين، لكنها في المقابل أحيتهم، لأن المعنى يحتفظ بـ«رماد الفينيق» فطرفة بن العبد قتلته الرسالة التي حملها، وابن المقفع صلبه نصّه، والتوحيدي شرّدُته أوراقه، وابن رشد زندقتُهُ مدوناته للعقل، وطاهر حامد أبوزيد طردته لعنةُ أفكاره حول العقل والنص وعلم الكلام، وهناك كثيرون ممن كانوا ضحايا نصوصهم المكتوبة.
النصوص القاتلة حملت معها حياة للغائب، فلولا تلك النصوص ما عرفنا دريد بن الصمة، ولا الحلاج ولا ابن المقفع، ولا المتنبي، ولا السهروردي، ولا غيلان، ولا ديك الجن، ولا طرفة، وكثيرين منهم.
المشافهة رغم أنها لا تحمل مركزية الكتاب، لكنها لا تقتل أحدا، لأنها عائمة، بلا أثر، ولا وثيقة، «صوابيتها» قابلة للمخادعة والتزييف، إذ هي لا تصنع نصا، ولا تحمي أحدا، فهي عابرة ومتغيرة وخاضعة لثنائيات الإضافة والمحو، والمخاتلة والصدفة، لذا ندرك خطورة ما تعنيه الكتابة بوصفها الضدي، فهي نصٌ وشهادة، وتوصيف، مثلما هي حيازة صيانية لسيمياء الاشياء، فضلا عن كونها مرجعا وقرينة وبيّنة في اسناد القرار، إذ هي العلامة الفيتشية للحب، وللكتاب والوثيقة والتقرير والخطاب- الصادق أوالمزوّر- فكثيرا ما تثير تلك العلامة الشجن والشوق والشغف، مثلما أن تتحول إلى صفة قاتلة، عبر قصدية الاستعمال، ولعل أحداث العراق السياسي كشفت عن أن التقارير الأمنية والحزبية – بوصفها علامات للكراهية – تحولت إلى دوافع لوضع حدودٍ في الحكم والقتل، وفي بيان المواقف في الإدانة وفي حماية مكتبة الأدلجة والعصاب والعائلة والمقدس، ورفض كتابة المغايرة والاختلاف..
حرائق الكتب… حرائق الكتابة
تاريخ حرائق الكتب يرتبط بفعل محو ذاكرة كتابة الاختلاف، وبخطورة الأثر الذي تصنعه، فبقدر ما يثيره هذا التاريخ من أسئلة لها علاقة بالهيمنة السياسية والعصابية، ونزوع هذه الهيمنة لمحو وجود الآخر، فإنه يحمل في خفاياه الصراع حول ذلك الأثر، وحول طبائع القوى التي تعمل عبر الحرب والغزو والتلصص والانتحال والمداهنة الأيديولوجية إلى فرض تخريب ما تحويه الكتب من وثائق، قد تكون فاضحة، وبخصوصية معرفية صالحة لإدانة هذا أو ذاك، أو لترويج الأفكار التي تخصّ جماعة أو سلطة ما، لكنها تبقى كممارسة عصابية أو ممارسة أيديولوجية قائمة على أساس رفض الآخر وإقصائه، بوصفه مختلفا ومغاير وباعثا على الشراكة المهددة للعصاب والأدلجة.
خطورة الكتاب تكمن في أنه مجال صياني لمحتوى الكتابة، أي إنه إطار حيازة وحفظ للأثر والشهادة والوثيقة، وحين نراجع تاريخ حرائق الكتب سنجد أنها حدثت لأسباب سياسية، وبمرجعيات تقوم على كراهية الآخر، أي كراهية وجوده وأفكاره، ولما تمثله مكتبته من فضاء حيازي لأفكار معينة، فحريق الإسكندرية الذي قام به قيصر ليس بعيدا عن فكرة الكراهية، والإقصاء عن الذاكرة والتاريخ، بما فيها إقصاء القيمة الثقافية المعرفية، أو القانونية والفقهية التي يضمّها هذا الكتاب أو ذاك، والتي قد تكون مانعا أو مصدا لأحكام مضادة، أو لتشويه موقف ثقافي أو ديني أو سياسي لمثقفي المعارضة، أو الذين لم تستطع السلطة تطويعهم، فالحديث عن حرق كتب أبي حيان التوحيدي، وابن رشد ليست بعيدة عن تاريخ الحرائق الكبرى، التي تعرضت لها بغداد والإسكندرية والقسطنطينية على يد الغزاة، فضلا عن الحرائق التي قام بها الاحتلال النازي لعديد المكتبات في أوروبا، فضلا عن حريق مكتبة الكونغرس الأمريكي من قبل الإنكليز عام 1814، وكذلك المكتبة الوطنية في سراييفو في البوسنة من قبل الصربيين، وفي بغداد حرق المغول 36 مكتبة تضم آلاف الكتب، وكذلك الحرق البابوي عام 1515 للكتب المترجمة من اليونانية والعربية والكلدانية، تحت يافطة العقائد الفاسدة، وحرق 400 ألف كتاب في مكتبة مدينة ستراسبورغ الفرنسية، حرق 55 ألف كتاب في مكتبة كابول من قبل طالبان، وكذلك حرق الشرطة لـ 97 ألف كتاب ولوح في مكتبة مدينة جفنا في سريلانكا، فضلا عن حرائق كثيرة أخرى في عديد الدول والمدن.
لحرق الكتب وجوه أخرى، تتمثل في المنع والمصادرة والحظر، وهي حرائق لها حمولتها الرمزية، على مستوى فاعلية السلطة التي ترفض وجود المختلف، أو على مستوى وجود الرقيب وحارس البوابة، اللذين يشبهان الغازي والمستبد والجنرال، والذي ينظر إلى مكتبة الآخر مثلما ينظر إلى مشجب أسلحته، وينظر إلى كتابته مثلما ينظر إلى خرائط جيوشه التي تهدد الآخر بـ«الويل والثبور وبعظائم الأمور» كما تقول الحكاية المثيولوجية…
كاتب عراقي