يمكن القول بأن إغراء الشاشات، والسيولة النصية، باتا نقمة على الكتابة، ونعني إشكالية الخلق الإبداعي، إذ أمست عملية اجتراح نص، وإطلاقه أشبه بممارسة آلية لا تحتاج إلى الكثير من المؤهلات، وهذا بدوره أفضى إلى نماذج من الكتابة الإبداعية، سواء في الرواية أو القصة القصيرة أو الشعر، حيث نجد أكواماً من الإصدارات الجديدة التي تصدر كل يوم، غير أنها لا تنطوي على أي قيمة فعلية، سوى إنها ثرثرة عبثية مزعجة، بل إن تداعياتها على الأدب أضحت لا تحتمل، كونها تسعى إلى تكريس نمط من الفساد الذي يطال فعل التلقي، وبوجه خاص على مستوى التلقي النفسي، فقد أبعدت القارئ عن متعة القراءة، وهذا ما يدفعنا إلى أن نتساءل عن السياقات الحضارية التي جعلت من الكتابة بهذا السوء، فالناظر في كم النتاجات يفاجأ بالمستوى، حيث لا نجد سوى تهويمات زادتها أغلفة كتب مصممة بعناية، أو عناوين جذّابة، و(عتبات نصية) أو كما ينعتها جيرار جينيه عملية «ربض النص» التي تستهلك القارئ وتستدرجه إلى مواصلة القراءة، ليصدم بعد الصفحة الأولى بما لا يمكن تصنيفه، كونه ربما يفارق ما يتعارف عليه بالتوقع، فالنص الطباعي بما يحمله من عتبات ولوازم الكتاب المطبوع، يستهدف بناء فضاء دلالي، وليس ضربا من التزويق والإيهام بأن العمل ينطوي على عمق معرفي، أو الكاتب مثقف ومتمكن من بناء شبكة دلالية مع تلك العتبات، وغيرها، فثمة عدم قدرة على ضبط الجنس الأدبي الذي يسعى الكاتب إلى التعريف به، أو التعبير عنه، ومع أن ثمة نصوصاً تبدو متخففة أو عابرة للأجناس الأدبية، أو كما يسميها إيف ستالوني «الخروق الجنسية» كما جاء في كتابه «الأجناس الأدبية»، فهي ينبغي لها ألا تخلّ إخلالا شديداً بميثاق القراءة الأولي، فكل قارئ أو ناقد يحتاج في تأويله لأي نص أن يتكئ على تصنيف رسمي لقياس العمل، ويحدد ستالوني بعض الأسس منها قيمة المعيار، والعدد (المتشابه)، ومن ثم الترتيب أو الزمر،(ستالوني)، غير أنه يلاحظ أن هذا النهج ينطلق من وعي بقيمة الحداثة بوصفها تشكيلاً ثورياً للتمكين النصي، أو للحدود، أي تلك الحرية الأجناسية، التي يمكن أن نراها في الكثير من النصوص التي تخترق أو تتجاوز إشكالية التجنيس، وهذا يمكن أن يضطلع به كاتب متمرس خبر الكتابة، وأنتج عشرات الكتب في إحدى فنون الأدب، ومن ثم ينطلق للقيام بمغامرة نصية، ولكن مع وعي بالمرجعيات التي ينطلق منها، بالتضافر مع قدرة على ضبط اللغة، وخلق مكون وفضاء دلالي عميقين، أو شديدي التبصر.
إن مفهوم الجنس الأدبي في أحد معانيه يعني الاشتراك بسمات محددة، وهذا ما يجعلنا نصنف كتاباً ما على أنه رواية أو مجموعة قصصية، ولكن تكمن المعضلة حين نجد هذه الرواية، أو القصة لا تمتلك مواصفات أو سمات تقترب بها من تلك المواضعة، فهذا لا يمكن أن يبرر، وهنا نؤكد على أن حرية الخلق قائمة، ولكنها ينبغي أن تنطوي على الحد الأدنى من الوعي بالكتابة، بوصفها بناء واعياً بحدود الفنون، ومبادئها، أو بمعنى آخر الوعي بأن هذا النص يملك سمات أدنى للأدب، لا كتابة أشبه بما يوجد في كراسات طلاب مدرسة في حصة إنشاء. ومن هنا، تكمن المشكلة حين نرى رواية أو قصيدة أو قصة قصيرة لا يمتلك أن تتوافق مع توقع القارئ الذي يتهيأ لكتابة رواية أو قصة قصيرة، فيجد نصاً لا يقترب من هذا الجنس أو ذاك لا من قريب أو بعيد.
ربما كان ثمة سحر ما يدفع البعض إلى التّطفل على الكتابة من منطلق أن وصف أو لقب شاعر أو قاص أو روائي يمكن أن يحتمل قدرا من القيمة أو الجاذبية، فمن وجهة نظري، فإن الكتابة ليست امتيازاً أو قيمة مضافة، بل على العكس من ذلك، الكتابة على قدر كبير من الصعوبة، وربما الألم، هي أشبه بورطة، وهنا تكمن قيمة الكتابة من حيث كونها، ينبغي أن تعكس تجربة حقيقية مشفوعة بنوع من الثقافة التي تستطيع أن تفسر العالم، وتعيد تنظيمه، سعيا وراء الدلالات الجديدة، فالكتابة ليست مجرد مزاج حسب، أو رغبة للبحث عن قيمة ذاتية أو مجتمعية، الكتابة أقرب إلى عملية تستنفد قوى الإنسان، وتتركه حطاما، وهنا ندرك أن معظم الكتاب الحقيقيين قد أدركوا هذه الحقيقة، فالكتابة بالنسبة إليهم ما هي إلا تجسيد للألم، وحين تقترن بالتنظيم العقلي أو الوعي، فإنها تصبح شرا مستطيراً، ولكنه مع ذلك العذاب الجميل، أو فعلا مازوخياً- إذا جاز التعبير- كونها يمكن أن تعيد التوازن لذات متسائلة، وبهذا تتحول الكتابة من إضافة إلى حاجة، أو جزء أساسي من مقومات الحياة للكاتب.
من أهم أسس الكتابة ذلك الإحساس بأن الكتابة ليس ممارسة استرخائية، أو سهلة المنال، أو النظر لها على أنها ذات طابع تطهيري فحسب، على الرغم من عدم إنكار دورها تبعاً لآراء أرسطو.
إن من أهم أسس الكتابة ذلك الإحساس بأن الكتابة ليس ممارسة استرخائية، أو سهلة المنال، أو النظر لها على أنها ذات طابع تطهيري فحسب، على الرغم من عدم إنكار دورها تبعاً لآراء أرسطو، غير أنها تنطوي على قدر كبير من التنظيم، فثمة حاجة لاستنهاض الفكر والشعور، والثقافة والتجربة، كما ثمة التحام حقيقي بالفعل، وكما يقول هنري ميلر، فإن الكتابة يجب أن تتم وفقا لبرنامج منضبط، وليس تبعاً للمزاج، وعليه فثمة وقت ما أو محدد للانتهاء، أو الانفصال عن العمل، وهنا نرى وعياً عميقاً بالفعل الواعي للكتابة بوصفها استنهاضاً عقليا وشعوريا، وليست فقط ضربا من الممارسة الساذجة، ولكن الأهم من ذلك أن تحرص في الكتابة على الضوابط، وأهمها توفير اللغة الأدبية بوصفها انزياحا، غير أن ثمة ملاحظة ينبغي أن نتوقف عندها ملياً، فبعض الكتاب يعتقدون أن الكتابة الأدبية هي حشد من الصور والتشبيهات ومتتاليات من اللغة الشعرية، من منطلق أنها تجسيد للغة الأدبية، أو النظر لها بوصفها تعريفاً للأدب، غير أن هذه اللغة المتراكمة فوق بعضها بعضا، ولاسيما من الصور، ربما تجلب الوبال على النص، والفعل الإبداعي برمته، وذلك لأنها تبدو قائمة في غير سياقها، كما أنها ربما تضفي على النص سماجة لا محتملة، أو سذاجة ولا يمكن لأي قارئ أن يحتملها، وهنا نقصد القارئ الذي امتلك القدرة على تدبر النصوص والتمييز ما بينها، خاصة تلك التي لا يحتوي على أي زوائد.
إن هذا الضّرب من الكتابة بات شائعا في الكتابة العربية، بحيث أن مناهج التعليم كرست هذا المفهوم الساذج لمفهوم الأدب، بحيث حصرت الفعل الإبداعي في لغة تحتفي بالصور والتهويمات البلاغية، عبر محاولة خلق صور حمقاء، أو عبثيّة لا تؤدي إلى منتج دلالي أو حقيقي، ولا تأتي إلا بوصفها ثرثرة وحشواً من منطلق بناء قيم جمالية في النص المطلوب إنتاجه، أو بما عرف بالانحراف أو الانزياح الذي أسيء فهمه.
أما إذا نظرنا إلى الخطاب على مستوى الأفكار أو الأيديولوجيا فإننا سنلاحظ أن الكثير من الكتابات باختلاف أنواعها تعكس ضحالة في العمق، حيث إن الكاتب لا ينطلق من تصور فكري عميق للخطاب أو المقاصد النصية التي يتقصّد وضعها في نصه، فهو يقوم بسرد وقائع، معتقداً بأن ركام الأحداث والتشبيهات والصور لوقائع تتصل بموضوعات معينة، باتت معينا لا ينضب لدى الكتاب العرب، ولاسيما من الناشئين، ونعني قضايا الاحتراب والهجرات واللجوء، وسرد وقائع الموت والألم والتدمير التي يعاني منها العالم العربي، إذ يعتقد بأن ذلك كفيل بأن يخلق نصاً أدبياً، غير أن ثمة أمراً مفقوداً، ونعني تلك الرؤية التي تحكم النص، إننا لسنا بصدد تمثيل الواقع أو الوقائع كما هي، وإن كان هذا مبرراً تبعاً للمدرسة الواقعية على سبيل المثال، غير أن الأدوات الفنية مصابة بالعطب، وهي أشبه بحالة عقم، بحيث لا يمكن أن يتمخض عنها نتائج حقيقية، أو أن تتسرب التجربة لتمكث في الوعي مجسدة، أو بوصفها نصا حاملاً لمنظور أيديولوجي، بالتّضافر مع جماليات حقيقية.
إننا بحاجة لإعادة تفعيل المسألة النقدية، والكفّ عن هذا الإنتاج العبثي المجاني، مع التأكيد على أن الكتابة وإنتاج الفن أو المعرفة، ينبغي أن نسعى إليه بكل الوسائل والطرق، ولكن ثمة حدوداً ينبغي أن نتبينها، وأن نحرص عليها، إن هذا الإنتاج العبثي أو المجاني، بات يفقد الأدب العربي قيمته، ولاسيما مع غياب المعيارية الحقيقية في عالم يفيض بالإصدارات الجديدة التي لا يبقى منها سوى خبر صحافي عابر، ومظهر كتاب يُوضع على الرف.
٭ كاتب أردني فلسطيني
متفق معك أستاذ على ما قررته في مقالك هذا ، بحيث إن أسلوب النشء ظل عبارىة عن صور بلاغية مرسومة في زي كلمات..، إذ نجد أن الكتابة أصبحت خالية من المعنى الحقيقي والدلالي الذي يصبو إليه الكاتب.
ننتظر منكم أستاذنا الكريم أن تقدموا طرقا ووسائل تسهم في الحد من هذه المعضلة التي كرست في كيان العقل العربي خلال مقال لاحق وشكرا.