ليس من شأن الكتابة الالتزام بميثاق معين، مهما كانت مرجعياته وقوانينه، باعتبار أن تقيدها به أو بغيره، قد يكون مدعاة لتوريطها في خطابات، وفي تعاقدات، تقع خارج مجال اختصاصها، وهو ما يؤدي إلى إفراغها من دلالاتها، كي تتحول في نهاية المطاف إلى مجرد كتابة لا علاقة لها بالكتابة.
إنها عكس ذلك، تتخذ من خرقها الدائم لهذه المواثيق، ولهذه التعاقدات شعارا لها، وإطارا عمليا لاشتغالها، متحررة بذلك من إكراه تزكيتها، ومن واجب تكريسها لقناعات هذه الجهة أو تلك، على أساس انحيازها إلى قوانينها الداخلية، التي تخول لها إمكانية تفكيك مختلف المفارقات الهجينة، التي يجاهر الواقع بها، أو يتكتم عليها، مهما كانت مستندة إلى ثوابت راسخة، ومتجذرة في تربة القيم المجتمعية، علما بأن هذه القيم لا تعدو أن تكون أقنعة مؤطرة بمقولات عقلانية، هدفها التستر الرسمي على حماقات الدوافع الخفية، المتحكمة عمليا في بلورة هوية الكائن، وفي تحديد مسارات كينونته، فرغم مرور آلاف القرون على مغادرة الكائن لظلمات كهوفه الغاصة بسلالات الطبائع البدائية والمتوحشة، ورغم اقتناعه بعبوره لمئات الدورات الحضارية، التي يعتقد في قدرتها على تهريبه من جبروت هذه السلالات، باتجاه آفاق مضادة، مأهولة بكائنات العقل وأطياف الحكمة والنضج المعرفي، إلا أن أشباح السلالة وأرواحها، تظل محتفظة بقدرتها الخارقة على تكريس استمرارية حضورها، متنكرة في كل ما توفره الدورات الحضارية من أقنعة ومن هيئات، حتى يمكن القول، إن الدور الأساسي الذي تضطلع به الحضارات ككل، هو التستر على تلك الغيلان الخفية، المقيمة غصبا في دواخلنا، التي أرقت لقرون خلت مخيال الأساطير، بدون أن يهتدي إلى تأويل مقنع وموضوعي لها.
الدور الأساسي الذي تضطلع به الحضارات ككل، هو التستر على تلك الغيلان الخفية، المقيمة غصبا في دواخلنا، التي أرقت لقرون خلت مخيال الأساطير، بدون أن يهتدي إلى تأويل مقنع وموضوعي لها.
وبالنظر إلى الكفاءات الخارقة، التي تتمتع بها هذه الغيلان، بما هي دوافع مكتومة ومكبوتة، في الحفاظ على إيقاع استمراريتها في مشهد العلاقات المجتمعية، فإن الحضارة الإنسانية، ستكون بدورها مطالبة بتجديد إوالياتها، كي تساهم في تلميع صورة الكائن، بوصفه منجزها التاريخي، العابر للأزمنة، والهارب من مغاراتها البائدة المأهولة بخفافيش الغرائز البدائية والحيوانية. ومن بين الآليات التي اعتمدتها الدورات التحديثية في هذا المجال، التوظيف البراغماتي لمقولات الحريات الفردية، إلى جانب مقولات الاختلاف، على سبيل المثال لا الحصر، التي يمكن اعتبارها هوامش أنيقة لتصريف حالات الفيض الناتجة عن تنامي الترسبات البدائية، المحتفظة بحيويتها الأبدية في دواخل الكائن، من أجل وضع إطار موضوعي، ومعقلن لتمظهرها في المشهد الحضاري، بشقيه العام والخاص، ما يجعلها تحظى برضا الجميع، بدون أن تلحق عمليا بجذورها، ما قبل الحضارية. وكما هو واضح، فإننا نشير في هذا السياق إلى مختلف الدوافع التي دأبت المؤسسات الحقوقية على ترسيمها مجتمعيا، كي تأخذ موقعها الطبيعي، بين باقي الممارسات الحضارية السائدة والمتعارف عليها.
وبقليل من التأمل، يمكن القول، بأن مفارقة استمرارية الطبائع الفطرية والغريزية الأولى لدى الذات البشرية، ضمن السلوكات والعادات الحضارية الأكثر تقدما، هي مصدر الحضور المتألق للإشكاليات الفكرية، التي تضيء مسار التيارات الفلسفية والإبداعية الكبرى، والطافحة بحيرة نظرية تجاه المفارقات الصادمة، المؤثرة في تغميض هوية الكائن على جميع المستويات.
وفي ظل التهيب من تداعيات البلبلة التي يمكن أن تحدثها هذه المفارقات، سيكون من الضروري ”تحصين” الذات، بما تيسر من الميكانيزمات، الكفيلة بالحفاظ على الحد الأدنى من تناغمها وتكاملها. تحضرنا في هذا السياق منظومة «القناعات» بتعدد مضامينها ومرجعياتها، التي يمكن اعتبارها بحق، المسكن الاعتباري الذي يحتمي به الكائن من عنف الارتجاجات الصادرة عن تقاطع نداءاته الداخلية، بإكراهات العالم الخارجي، ذلك أن تبني الأفراد لقناعات معينة يعبرون بها عن هويتهم، ويتميزون بها عن غيرهم، غالبا ما يكون منسجما مع ميول الغيلان والآلهة المتعددة الاختصاصات، المقيمة في دواخلهم، باعتبارها الإطار النظري والتبريري، لتفعيل مسلكياتهم واختياراتهم، بكل ما يمكن أن يكتظ به هذا الإطار من نزوعات دموية، أو مخملية.
هكذا إذن، ومن هذا المنطلق، سيكون غموض الكائن، مندرجا تلقائيا ضمن الغموض العام والشامل للكون، المؤثث هو أيضا، بالتباساته ومفارقاته، لذلك، فإن كل إلحاح نظري على توسيع تلك الهوة التي تبدو تحت أنظارنا سحيقة، وفاصلة بين آلاف السنين التي مضت على نزول السعدان من على شجرة الأصل، وبين اندماجه في زمن ما يطلق عليه حاليا بـ”الذكاء الاصطناعي” هو في حقيقته ميل ماكر إلى اختلاق كائن لا بشري، قريب الشبه بدمية آلية، مجردة من أي روح بشرية. كما أن المنهجية ذاتها، تفيد بتواجد نزوع مبيت لتلافي التفكير في حقائق الوجود، بما تحفل به من تداخل وتعقيد، يبدو طبيعيا من حيث الجوهر، بقدر ما يبدو ملتبسا من حيث مقتضيات التقطيع الزمني، الذي يصر فيه الحاضر على التنكر التام لماضيه، من أجل صرف الانتباه عن التشققات المنسية والماضية، التي تطفو من حين لآخر على صفاء مرآته.
تكمن أهمية الكتابة المجسدة في قدرتها على الذهاب بالكائن، إلى عمق هذه المفاوز، بدون أن تتورط بالضرورة في مغادرة أمكنة انطلاقها المأهولة بالكائنات الحضارية.
ومن أجل أن تحظى هذه القناعات بمصداقيتها، سيكون من الضروري أن تجد ضالتها الكبرى في القيم الثقافية، والدينية، والمجتمعية السائدة والمهيمنة، التي يتمثل دورها في وضع الكائن على جادة ما هو واضح، وما هو صحيح وقويم، حيث تأخذ القيم بموجب هذا المنظور، شكل حجاب يحول بيننا وبين رؤية ما يحدث في الظلمات التحتية من تنافر وتناقض. إن القيم هنا، تختزل السلوك البشري في منظومة الواجب، كما أنها تؤثر في تقليص رقعة حركيته، التي ينبغي أن تتقيد بقوانينها المشتركة. ولربما كانت إيجابيات القيم، تتمثل في إنجازها لهذه المهمة، أي في إعفاء الكائن من تعب السؤال، ومن التورط في تقليب إشكاليات الوجود. ولربما كانت أيضا هذه المهمة، منسجمة مع طبيعة الذوات المصابة برهاب الفضاءات المفتوحة على أهوال القضايا والأسئلة الجارحة. وهنا تحديدا، تكمن أهمية الكتابة المجسدة في قدرتها على الذهاب بالكائن، إلى عمق هذه المفاوز، بدون أن تتورط بالضرورة في مغادرة أمكنة انطلاقها المأهولة بالكائنات الحضارية، وبحميمية أجوائها، في أفق اختبار ما تضيق به الأجساد والأرواح من مفارقات غير قابلة للطي، حيث سيكون بوسع القراءة أن تقترب من مغارة المحظور، ومن عتماته، خلال تماهياتها الرمزية، مع كائنات الكتابة، بدون أن تتورط بالضرورة في مصائرها. وبقدر ما تكشف الكتابة عن العوالم السرية التي تستميت أضواء الحضارة الآلية، من أجل تبديد كثافة ظلالها، بقدر ما تقترب القراءة من سمك هذه الظلال، بوصفها ثوابت طبيعية، تكتمل بتفاعلاتها الهوية العميقة لجوهر الذات، حيث بوسع القارئ وفي حدود ما يسمح به التفاعل النصي، أن يكون داخل القيم وخارجها في آن، أي أن يكون الشيء ونقيضه، وهو يعيش تجربة المراوحة بين الحافتين، بأقل الخسائر الممكنة.
٭ شاعر وكاتب من المغرب