إلى وقت قريب، كانت ثمة نظرة دونية ناجمة عن البنية الذهنية للمجتمع العربي، ترى أدب المرأة ضعيفا وقليل القيمة لا يُضاهي أدب الرجال؛ ما جعل المرأة تتهيب من خوض نشاط الأدب، وحُكِم عليها أن تبقى خارج حلبته، أو معركته داخل المجتمع، ما يُفسر غياب المدونة الأدبية النسائية العربية، أو على الأقل تبعثرها ونُدْرتها. وقد ظلت هذه النظرة توجه مجمل نشاطية الأدب، كأنها غدت ضربا من سلطة السنن الثقافية، الذي رسخته مؤسسة الأدب وارتضته الذائقة المهيمنة، ولم تتزحزح تباعا، إلا مع اشتداد الدعوة الإصلاحية منذ أوائل القرن العشرين إلى تحرير المرأة، ومنحها حقوقها المسلوبة منها.
ومنذ منتصف هذا القرن، بدأ الصوت الجماعي للمرأة الأديبة يهب، في موجات متتالية، ليرمي عنها سمات السلبية والخنوع والتردد، ويكسر حاجز الخوف من قول أناها ودفائنه؛ ومن ثمة برز اشتداد الحاجة عند المرأة للتعبير، بأسماء مستعارة في بادئ الأمر، عن معاناتها الذاتية وشجونها الخاصة، ووجدت في الأدب بأجناسه، شعرا وسردا، ما يستجيب لهذه الحاجة الملحة.
وفي هذا السياق، جرى الحديث عما اصطلح على تسميته بـ(أدب المرأة) و(الأدب النسائي) و(الكتابة النسائية) أو(كتابة الأنوثة) داخل حقل الأدب، مُتجاوبا مع بعض الدراسات الثقافية، ودراسة النوع الاجتماعي أو الجندر تحديدا. وقد حملت مثل هذه التعبيرات تقسيما جِنْسانيا لمفهوم الأدب ووظيفته، وطرحت معها نقاشا لم يهدأ إلى اليوم، بين مُؤيد ومستنكر.
نعيد، هنا، طرح المسألة على بعض المشتغلات بالكتابة النسائية ممارسة وتنظيرا: إلى أي حد يصمد مصطلح «الكتابة النسائية» في ميزان النقد؟ هل يمكن أن نجرد خصائص وسمات محددة تميز هذه الكتابة وتمنحها اختلافها وشرعيّتها؟ إلى أيّ مدى يمكن أن تساهم هذه الكتابة في توسيع حضور المرأة داخل المجتمع والثقافة واللغة؟
بداية يجب أن نتفق على شيء، وهو أن الكتابة فعل إنساني بامتياز، بغض النظر عن كاتبه، ولا يمكن تحديده إلا من داخل دائرة الكتابة نفسها، الأمر الذي يعني أننا لا يمكن أن نتمثل الإبداع خارج سياقاته الثقافية والمعرفية، وبالتالي حين نحاول تحديد مفهوم الكتابة النسائية أو الأدب النسائي، فيجب أن نحدده انطلاقا من سياقاته، أي أن الأنوثة ليست معيارا يحدد أدبية ذلك الأدب الذي تكتبه المرأة أو جماليته، فقد تكون سمة من سماته، أو رؤية معينة لها شروطها الخاصة، وخصائصها المتميزة ككل تجربة إبداعية، لكن الأدب يظل أدبا، وأي قراءة له ينبغي ألا تقتصر على توصيفه، وإنما الاقتراب من جوهر خطابه الأدبي، وما ينتجه من أسئلة جديدة. إن البحث عن خصائص وسمات الكتابة النسائية حق مشروع يؤكد الاختلاف، لأن المرأة تنطلق من تجربتها في كل أبعادها ودرجات وعيها، وتعمل على تخصيب نصوصها برؤية نابعة من طبيعتها الأنثوية، على الرغم من أنها تظل في جوهرها إنتاجا إنسانيا يسعى إلى الحضور المستمر في ذاكرة المكان والزمان، ويغوص عميقا في ذات الإنسان وهمومه وتطلعاته ونزعاته.
وبفضل ما راكمته الكتابة النسائية خلال العقود الأخيرة، في مختلف الأجناس الأدبية، يمكن الحديث عن حضور جاد، وعن مشاركة المرأة بقوة في إعادة تشكيل الواقع جماليا وموضوعيا، انطلاقا من تجربتها الإنسانية، بكل أبعادها وحدودها.
وعلاقة المرأة بالإبداع والبحث العلمي والكتابة عموما، علاقة محملة بأسئلة متعددة ومختلفة، منذ أن أعلنت أنها لم تعد موضوعا، وإنما فاعلة منتجة للخطاب، خاصة أنها استطاعت اختراق مجالات عدة، بل يمكن القول إنها رسّخت قدرتها على تشكيل نصّها الإبداعي، الذي أثبت وجوده وهويته وكينونته، من خلال استحضاره لسؤال الإبداع. المهم هو وضع هذه الكتابة النسائية في سياق الممارسة الثقافية والفكرية والإبداعية الإنسانية، بعيدا عن أي تصنيفات ضيقة، بمساءلة متخيل المرأة والكشف عن بلاغة نصوصها من أجل الوصول إلى عمق جوهرها الإنساني. وبفضل ما راكمته الكتابة النسائية خلال العقود الأخيرة، في مختلف الأجناس الأدبية، يمكن الحديث عن حضور جاد، وعن مشاركة المرأة بقوة في إعادة تشكيل الواقع جماليا وموضوعيا، انطلاقا من تجربتها الإنسانية، بكل أبعادها وحدودها، ودرجات وعيها، وإخصاب العمل الإبداعي برؤية نابعة من طبيعتها الأنثوية، الأمر الذي ينبئ عن خصائص جمالية تشكل طفرة نوعية في الأدب العربي، تتمثل في ما عرفته من تنوع في آليات إبداعها ومنافذ اشتغالها المنفتحة على عوالم مختلفة ومتنوعة، تستوجب تعميق قراءتها ونقدها لسبر أغوار قضاياها، والقبض على مستويات جمالها، دون مزايدات خارجة عن نطاق الأدب والإبداع.
منذ أكثر من ربع قرن ومصطلح الأدب النسوي يتداول في الأوساط الإعلامية والأدبية والنقدية، ويثير نقاشات، وتعقد له الملتقيات والنّدوات، لكنه لم يصل إلى تحديده كمفهوم إجرائي واضح المعالم، يمكّن من استخلاص القوانين التي تجعل من الأدب الذي تكتبه النساء أدبا يخصهن شكلا أو مضمونا. هذا الوقت الذي مرّ، فيه ما يكفي لتأكيد فشله كمصطلح، ولذلك يلجأ البعض إلى تخريجات سطحيّة عديمة النفع كأن يفرقوا بين النسوي والنسائي، دون أن يكون هناك دليل على وجود فرق بين جمعين كلاهما صحيح في اللغة العربية، ويُعيّنان شيئا واحدا.
إن الثراء الذي تعرفه الكتابة النّسوية، منذ أن حدثت تحولات كبرى في الثقافة المعاصرة، وتمّت زحزحة الثقافة الذكورية التي كانت تقف عائقا أمام انخراط المرأة في الإبداع، يؤكد أن ما تكتبه المرأة لا يشي بأي خصوصية بلاغية أو بنيويّة، أو رؤيوية إلا ما تعلّق بموقف الكاتب، الذي تكتسي رؤيته طابعا خاصّا نتيجة مرجعياته المختلفة وانتمائه التاريخي أو الأيديولوجي وطريقة تمثله للوقائع والأحداث والأشياء، خاصة أن الفن عموما والأدب خاصة كالرواية مثلا، تحمل من المبررات ما لا يسمح لنا بالعثور على آثار المرأة أو الرجل، في نص يفرض على المرأة والرجل على السواء أن يعدد الأصوات والمستويات اللغوية، وهذا ما يجعلنا لا نفرق مثلا بين نصوص أحلام مستغانمي ونصوص واسيني الأعرج، أو بين سحر خليفة وجبرا إبراهيم جبرا.
إن الثراء الذي تعرفه الكتابة النّسوية، منذ أن حدثت تحولات كبرى في الثقافة المعاصرة، وتمّت زحزحة الثقافة الذكورية التي كانت تقف عائقا أمام انخراط المرأة في الإبداع، يؤكد أن ما تكتبه المرأة لا يشي بأي خصوصية بلاغية أو بنيويّة، أو رؤيوية إلا ما تعلّق بموقف الكاتب
وإذا ثبت لنا افتراض فشل مصداقية هذا المصطلح وغياب إجرائيته، فهذا يعني أن المصطلح سياسي أيديولوجي مرتبط بحركة اجتماعية سياسية هي الحركة النسوية التي ناضلت من أجل حقوق اجتماعية، وتمَّ تدوير هذه الفكرة في مراكز خفيّة، وتفعلها أنساق مضمرة استفادت من التوصيف لتجعل منه تعلّة للإبقاء على فكرة الحريم، لذلك نجد أن بعض مراكز القرار والثقافة يستغلونه من أجل أن يبقوا على هيمنتهم على المرأة بالتحكّم في الحركة النسوية، تغريها في كل مرحلة بمطلب جديد ترفعه بعض الحركات سلاحا في وجه القيم، فتكون جزءا من الخطاب المضاد للذاكرة، وفي أحيان أخرى للفطرة الإنسانية. ويصبح في أغلبه فعلا سياسيا وثقافيا أريد له أن يكون وجها من أوجه التقويض الذي تشهده حركة الكتابة. وعلى الرغم من ذلك، وبعيدا عما يعتقده البعض أنه إساءة تأويل، فإن خصوصية مصطلح النسوية، وإن حقّق بعض أهدافه في المجال الاجتماعي والسياسي، وفرضت به المرأة نفسها كفاعل اجتماعي جنبا إلى جنب مع الرجل، فإنه من الصّعب الجزم بتحقيق خصوصية من خلاله في مجال الفلسفة والأدب والفن، لأنها مجالات تتجاوز الحدود الفاصلة التي تفضل الذّكر عن الأنثى، والمرأة عن الرجل، ذلك أن الأدب يخلق في اللحظة التي يتم التماهي فيها بين الرجل والمرأة، أي في لحظة انتفاء التعارض بينهما. إنّه لا يمكن أن يشتغل حين تكون المرأة امرأة والرجل رجلا، لأنه كينونة لغوية وجودية تتعارض ومنطق الهوية الجنسية والثنائيات، التي ليست مسؤولة على تحديد هوية الأدب، الذي لا تحدّده طبيعة الأفراد، لكن تحدّده مجموعة القيم الإنسانية التي يعطف القلوب عليها، ويلتقي فيها الرجل والمرأة على السواء، إنه خطاب مطلق ليس معنيا بأي توصيف لأنه مرتبط بحركة التاريخ. وإنّ الأوصاف التي تلحق به عادة ما تعبر عن محاولات للإمساك بما لا يحدّد، ولذلك يظل الأدب رؤية مجازية للكون أدركها من أدركها من الرجال أو النساء وأخطأها من لا علاقة له بالإبداع.
الكتابة هي الكتابة، فلا يمكن الجزم بوجود كتابة نسوية أو ذكورية. فالكتابة لها جلالها وهيبتها عند المرأة والرجل، إلا أنها عند المرأة لها ممارسة ذات طقوس تسكب فيها معاناتها منذ فجر الخليقة، فهذه المعاناة لها بعدها الكوني الذي يلامس جذور النفس البشرية، وروح الكتابة عند المرأة تشكل لغزا وصراعا؛ لأنها تكشف في تعبيرها عالما ضبابيا معقدا يخيم على عصر الذرة والحروب النووية، كما أن الحرف الأنثوي يجسد موقفا جماليا وفلسفيا تطفح فيه مشاعر الحب، والأمومة. إنه موقف إنساني؛ إذ أنها تسكب في كتاباتها الخوف الكوني من الحروب التي اشتدت عواصفها ونيرانها في عصرنا، وهي ليست حروبا من أجل تحقيق العدالة على الأرض، بل قائمة على الظلم وابتزاز حلم الإنسان ليس في الحياة حسب، بل حتى بعد موته. فها هي إنعام كجه جي، الكاتبة العراقية المغتربة، نلمس منذ اللحظة الأولى في روايتها «طشاري» عنوانا يجذبنا إلى المعنى المأساوي للتغرب عن الأوطان وما له من أبعاد ثقيلة ترهق النفس، فالفعل طشَر يأخذنا إلى معناه اللغوي؛ أي طرح وبعثر بعنف، فتجلت الرواية بمضامين مثقلة بهموم الإنسان العراقي الذي بددته الحروب، وجعلته في بحث دائم عن هويته وحضارته وتراثه الذي نثرته أمريكا هباء بوابل قنابلها، بعيدا عن كل مأوى، حدَّ أن الإنسان بدأ يراوده القلق الكامن في داخله: أين سيكون قبره؟
لا يمكن أن يشتغل حين تكون المرأة امرأة والرجل رجلا، لأنه كينونة لغوية وجودية تتعارض ومنطق الهوية الجنسية والثنائيات، التي ليست مسؤولة على تحديد هوية الأدب، الذي لا تحدّده طبيعة الأفراد، لكن تحدّده مجموعة القيم الإنسانية التي يعطف القلوب عليها، ويلتقي فيها الرجل والمرأة على السواء،
وهل ستكون المقابر مكانا يلتقي فيه الأهل والأحبة يلملمون شتاتهم وعذاباتهم؟ فهي تلامس بحروفها شفافية آلام الانسان المغترب في كل بقاع الأرض. أما الكاتبة المصرية رضوى عاشور فقد جذبتني في «ثلاثية غرناطة» التي تتكون من ثلاث روايات وهي: غرناطة، مريمة، الرحيل. تأخذنا أحداثها إلى تاريخ عميق تمتد جذوره إلى عام 1491 وقد عمقت فيها الانكسار العربي في الرحيل عن غرناطة، وما زال هذا الانكسار مستمرا إلى يومنا هذا بتتابع الاستعمار على أراضينا حتى اليوم، والشعور الممزوج بالغربة على أرضنا أرض الحضارات التي اقتلعوا منها النخيل وحرقوه. أما الشاعرتان العراقيتان آمال الزهاوي وبشرى البستاني فقد تصدرتا المشهد الشعري بعد نازك الملائكة، بقصائدهما ذات السحر الأنثوي الذي تغنى بجمال العراق وحدائقه الفكرية والجمالية وبكتا أحزانه ونزيف جروحه وقضايا الشعر الوطنية والوجودية والإنسانية. إن حلم المرأة الكاتبة هو التحرر من السجن الداخلي؛ حلم يميل إلى بلورة مجتمع مشرق يمنحنا أبسط الحقوق وهو حرية التعبير.
يطرح مصطلح الكتابة النسائية كصيغة عولمية تفرضها النيوليبرالية تعاضدا مع الانفجارات المجتمعية التي طرأت في السنوات الأخيرة وموجة (الفمنستة) التي تتفاعل وتنفعل وتُفعل بلا هوادة بحمولاتها المختلفة الإيجابية والسلبية، والتي لا مجال لذكرها في سياقنا الحالي. وإذا كان بارت يربط الصورة الفردية بالموت، فإن تكريس مصطلح الكتابة النسائية مصطلح مميت ومضلّل وغير موضوعي، فاعتبار الجندر يحيل الأمر برمّته إلى مزيج مركب من الأدلجة والعنصرية، وهي تسمية تفرض الوصاية مسبقا على العمل الأدبي ليبدو مصنفا بضوابط واعتبارات مرتبطة بالمرأة؛ وهذا لا يتفق مع الحرية التي جوهر ولا منتهى الفن والإبداع. وإن كان لا بد من (جَنْدرة) الكتابة، فإن الأمر في رأيي يظل مقتصرا فقط على الكتابة المتعلقة بطروحات متخصصة في قضايا المرأة فكريا واجتماعيا وقانونيا. ولأنّ المرأة فرد يفترض فيه أن يكون طبيعيا في المجتمع، فإن العمل الإبداعي أيا كان نوعه بما في ذلك الكتابة، هو ابتكار وخلق ذاتي ناضج مناطه شخصيتها وذاتها المتشكلتان وفق ثقافتها ورؤيتها. نحن نفتقد في مجتمعاتنا العربية، خاصة في الأجيال الوسيطة، إلى حد غير قليل للمرأة الواعية بذاتها وفكرها معا جنبا إلى جنب مع موهبتها الكتابية، وهذا هو السبب وراء ظهور صيغة المرأة الأديبة المتطرفة بسبب الحرمان والتفاعلات المتسارعة والمستحدثة باستمرار في الفترة الأخيرة. فمع استفحال ظواهر العنف خاصة ضد النساء، والاستقطاب على عدة أصعدة وبين فئات مختلفة، وما أفرزته التغيرات السياسية في المنطقة بعد 2011، وتفاقم دور وسائل التواصل الاجتماعي، لا يمكننا تجاهل الطوفان الكتابي والانخراط الجارف من مختلف الأجيال في أنواع الكتابة المختلفة بما ذلك النساء.
لكن ما صارت إليه الأمور على أرض الواقع أن قلة منهن تخلو كتاباتهن من شوائب الارتدادات الانفعالية المتطرفة بسبب الحالة العامة. ومن ناحية أخرى، ولأن الكتابة فعل اكتشاف وتجريد وتحرّر وإعادة خلق ذاتي لا نهائي من خلال الأفكار والرؤى، فالنساء مطالبات بتحرير لغتهن ووعيهن من الرداءة والركاكة ليخرجن من فخاخ كثيرة في كتابتهن على رأسها العواطف المستهلكة والمظلومية، والبديل أن يبقى الحال كما هو عليه الآن من حيث محدودية، بل ضآلة عدد ومستوى الكاتبات للنصوص القوية فنياُ، سواء في الشعر أو القصة أو الرواية.
وبالنسبة لعلاقة كتابة المرأة وحضورها مجتمعيا، فمن المنطقي أن يحقق فعل الكتابة هذا الحضور العملي وهو يتمدد في الدوائر الأكثر قربا من المجتمع، وبشكل خاص من العامة والأسرة؛ ما يعني أن تكون كتابة المرأة بمثابة الناقل الأهم للثقافة واللغة وتطوير الذائقة. وفي المقابل، للأسف، يتسع نطاق الاحتفاء بالمرأة الأنثى في كل شيء، بما فيه تلك المترهلة شعريا وأدبيا على نحو يصل إلى التضليل والجريمة في حق الأدب، من قبل من هم (معتبرون) في الأوساط الثقافية، سواء كانوا كتابا أو شعراء أو نقادا أو صحافيين.
لا توجد حدود في الكتابة ولا تقسيمات حين يكون صاحب النص مشبعا بالثقافة والوعي الأيديولوجي والاجتماعي والتاريخي والفكري. المرأة اليوم خرجت من صمت قديم وانتصرت لحقيقة كانت مغيبة؛ كونها تمتلك أسرار العالم وأسرار اللغة والنطق والتلقين.
دون الخوض في تاريخية ظهور المصطلح وكونه وافدا لا عربيا، وباعتباره يسبب إشكاليات متعددة في دراسة الأدب وتقسيمه لجزءين كأنما أحدهما له الأفضلية على الآخر، لا بد من أن أسوق ملاحظتي الأولى؛ وهي أنه مصطلح «فخّ» يوهم الرجل بأن ما كتبه خارج عن التصنيف، أو هو الأصل والأساس والبداية، وما هذه الكتابة المتعثرة الجديدة إلا وافدة عليه بحكم أن منتجها كائن لم يكن يكتب من قبل أو لا أحقية له في الكتابة، كأنما كتابة المرأة هامش وكتابة الرجل مركز. إنه مصطلح غير محايد يوحي بالحصر والانغلاق. شخصيا، لا أقبل إدراج تجربتي وقصائدي في هذا التصنيف العدائي الصادم والعازل بين ركنين من المجتمع وجدا معا على الأرض لتكوين حضارتها وثقافتها وإنسانيتها المشتركة. هذا تبويب يهشم البنية الاجتماعية والثقافية، ويفسر خللا كبيرا فيها. نعم، هي كتابة مختلفة متميزة صادقة متشاركة، لكن لا مجال للسؤال حول شرعيتها لأنها حضور ضروري وليس مشروطا. الكتابة أكبر من أن تصنف في دائرة الرجل ونقطة المرأة.
الكتابة النسوية، هذا المصطلح المشوش، يجب أن لا تُفهم على أنها مفهوم يلخص المرأة في صفتها الجنسية. لا بد من أن يشمل المرأة كجنس وكيان خاص له الطاقة العجيبة على البناء الثقافي والتنوع الإبداعي، المسكون باللغة الواضحة والمعنى الشفاف، والقدرة الجامحة على التوغل داخل تفاصيل اليومي والغرائبي، الذي لا يهتم الرجل به عادة. المرأة تكتب نصا حداثيا متطورا منتصرا للحقيقة والواقع، ومتجاوزا للتابو والممنوع حين يستوجب الأمر ذلك.
لا توجد حدود في الكتابة ولا تقسيمات حين يكون صاحب النص مشبعا بالثقافة والوعي الأيديولوجي والاجتماعي والتاريخي والفكري. المرأة اليوم خرجت من صمت قديم وانتصرت لحقيقة كانت مغيبة؛ كونها تمتلك أسرار العالم وأسرار اللغة والنطق والتلقين. المرأة عبر التاريخ كانت الأقرب لتفاصيل العالم ومكوناته بفطرة كل شيء فيها، والشاعرات العربيات اليوم يكتبن نصوصا عملاقة، لكن النقد العربي في حالة سبات عميق مقصود ومفزع لذلك تستمر مأساة هذه التصنيفات الدونية. المرأة لم تغب عن المجتمع يوما ولا عن الثقافة ولا عن اللغة. الأم تعلم طفلها اللغة والأسماء واستعمال الحواس. الأم المرأة كائن مفرط في العطاء، لكن الثقافة المريضة استطاعت كتم الكثير من رنين صوتها المنشئ للجمال. المرأة هي التي نطقت بالأغاني والأدعية والقصص والحكايات، وهي ترضع وتنيم وتهدهد وتعلم وتلقن وتكتب تاريخ البشرية بحكمة ويقين. انتصرت الفنون والحياة لمردوخ بعد أن كانت السلطة في يد عشتار لوحدها.
كاتب مغربي