كتب الشاعر الهندي ساردار جيفري في مقدمة ديوانه الشعري هذه العبارات المضيئة: «إنه لحق إنسانيّ أن يحظى المرء برؤى في المنام. وهو حقّ لا يمكن لقوّة في العالم أن تسلبه إيّاه، وربما يكون في هذا ضمان لمستقبل الإنسان والإنسانيّة». جميع البشر متساوون إذن في تجربة الحلم، لأنه ليس في إمكان أحد النوم من دون أحلام، نوم حجر الصوان.
الحلمُ هو أثر الروح وخرافتها، وهو نزهة الإنسان الكبرى، فنحن نجوس في أثنائه فضاءات خارجيّة غير محدودة، ونبحث كذلك في دركات داخليّة رحيبة. لا أعرف من أين أتى كاتب القصّة الأمريكي ريموند كارفر بهذه النظريّة: «إذا لم تحلم فإنك تفقد عقلك». يمكنك وأنت مستيقظ أن تمنع أحلام اليقظة، أما الرؤى في المنام فلا تستطيع قمعها، ويختلط الواقع والأحلام في بعض الأحيان، مثلما تتدفق معا مياه البحر والنهر.
نوعان من الأحلام لا أعرف ثالثاً لهما، السليمة والمهيضة، وكانت العرب تدعو الأولى «المبشّرات». ورد عن النبيّ المصطفى عندما حضرته المنيّة أنه قال: لا نبوّة بعدي إلا المبشّرات. قالوا وما المبشّرات يا رسول الله؟» قال: «الرؤيا الصالحة». ويذهب بعض الفقهاء إلى تأويل الآية 11 من سورة الضحى «وأما بنعمة ربّك فحدّث» بأن رؤى المنام التي تحمل المرء على طريق الهداية هي النعمة التي بلا نهاية، والمقصودة في الآية الكريمة.
(رائد مهدي الشِفِى) اسمُ ابن خالتي، نشأنا معاً في مدينتنا البعيدة عنّا نحن الاثنين، العمارة، والذكرى التي ما زلتُ احتفظ بها تعود إلى السبعينيات. كنّا نلعب كرة القدم في حيّنا، بستان عائشة، وغشّ الفريق المقابل في نتيجة المباراة، أضاف هدفا لم يكن حقيقيّا، واندلع بيننا شجار تحوّل إلى معركة خلعنا فيها أحذية الرياضة، مثلما يحصل في عالم الكِبار، حين يبدأون العراك بنزع القفّازات. ما زلت أذكر حذاء (رائد) عندما رماه واستقرّ ساحقا جرادةً تدبّ على الأرض. فكّرتُ في تلك اللحظة أنّ هذا يجلب الحظّ الجيّد لفريقنا في النزاع، وهو ما حدث بالفعل.
زارني في الحلم ليلة أمس ابن خالتي، وكان يرتدي صدريّة بيضاء ويجلس وراء منضدة، في مشهد يماثل مهنته في الواقع، فهو طبيب ارتحل منذ زمن بعيد إلى بلاد الضباب، وصار مواطنا إنكليزيا، البُعد بيننا يبلغ آلاف الأميال، فكيف لي أن أراه؟ لكن آلة الذهن تعمل أثناء المنام، وفق منطق غير معروف، وهكذا قضيت ساعة أو أكثر مع رائد الشِفي، انطبعت تفاصيلها في خاطري، وأحاول نقلها إليكم على الورق. كانت تجلس معه في غرفة الفحص فتاة شقراء لها ضفيرة ثقيلة، تعمل ممرّضة. جاءت تحمل إبرة حقن وريديّة، أي ما ندعوها (كانيولا). قلبت كفّي وفرشتها على الطاولة. رشّت عليها رذاذ محلول معقّم، ثم طعنت راحة يدي بالإبرة في الوسط. المعروف أن (الكانيولا) تُثَبّتُ في ظاهر اليد لا في باطنها، لكنّ آليّة الحلم تعملُ بصورة مستقلّة عن الواقع، أو ما يمكن أن ندعوه ضدّ الواقع. شعرتُ بألم شديد في كفّي، ودمائي أخذت تسيل وتتجمع في دورق زجاجيّ. تصاعدت آلامي شيئا فشيئا، وعندما بلغت قلبي تأوّهتُ في الحلم، ومرّ جميع ما في حياتي في مدى بصري. ثمّ اشتدّت معاناتي وهذيتُ طالبا المساعدة. قال ابن خالتي:
«لا بدّ أن تحتمل».
وقالت الممرّضة:
«نحن نزيل عنك الأفكار التي تسبّب لك الأرق».
لفّت يدي بالضماد، ثم قامت تحمل الحوض لتسكبه في المغسلة. بدل رائحة الدماء الصعبة، امتلأ الجوّ بشذى زهر الياسمين المبلّل بالندى.
«صرتَ أخفّ وزنا من السابق».
قال رائد وشفتاه تعلوهما ابتسامة باهتة معتذرة. ثم أردف:
«أنت محظوظ لأننا أبعدنا عنك النوايا الشرّيرة. نحن نساعدك كي يكون نومك سليما في المستقبل».
كان نبض النهار الهادئ يصلني عبر نافذة غرفة الفحص، وكنتُ أشعر بأني أتجرّد من ذكرياتي المزعجة، وكان هناك جزء مني يستوعب الأمر، ولكن كان هناك جزء آخر. ظلّ يرتجف عصبٌ في كتفي، وأنا أنظر إلى يدي الملفوفة بالضماد، وكنت أتساءل مع نفسي إن كان مركز هذه الأفكار هي اليد، يدي.
لا شيء أكثر طفوليّة من الحلم، ولا شيء أكثر غرابة. أيّ الصورتين أقرب إليّ الآن لابن خالتي: صورة لعبة كرة القدم، أم التطبيب؟ بالنسبة إلى عالم النفس السويدي كارل غوستاف يونغ: «نحن في الأحلام نشبه ذلك الإنسان الكُلّي والخالد والقابع في ظلمة ليل البدء». هل يعني هذا أني عدتُ طفلا أوليّا في الحلم؟ ما بين القدم واليدِ تسيرُ رحلتنا على الأرض. الأولى، وهي المهيمنة على ذكرى لعبة كرة القدم، تمثّل وجهتنا القديمة الأولى، أي الحيوانيّة، أو الحلميّة بتعبير يونغ. بينما تتعلّق صورة حلمي مع ابن خالتي باليد، التي يدعوها علماءُ التشريح دماغَنا الثاني، فهي التي تخطّ لنا مصائرنا، وكيف تكون صورتنا في الأخير، أخيارا أم أشرارا ملعونين. للشاعر حسين عبد اللطيف هذه الأبيات: «يدي/ يا يدي المستحيلة /ألا تنظرين الذي حلّ بي، من يديكِ! ألا تنظرين ذبول الورود الجميلة». هل كانت النباتات والحيوانات، بما فيها السِباع، بريئة لأنها تمشي على أربعٍ، أي أنها بلا أيدٍ؟ الأمرُ لا يحتاج إلى تفكير عميق ليعرف المرء سبب صعود هؤلاء جميعا إلى سفينة نوح، فقد أشفق الربّ عليهم لأنهم من غير ذنوب، فلا يستحقّون عذاب الموت غرقا في الطوفان.
أعود إلى رائد الشِفِي، والمنام الذي رأيتُ فيه صورته واضحة كأنه يجلس قربي، خصوصا اللمعة في الجبهة، وبسمة الوجه العريضة التي تدلّ على أنّ صاحبها يمتلك أغلى ما نطمح إليه، أي طيبة القلب. كأنّ الحلم والواقع يتبادلان الدور. الشِجارُ الذي دار عقب مباراة كرة القدم، صار من البعد وكأنه لم يوجد قط، بينما صارت رؤياي لابن خالتي مع الممرضّة في المنام واقعا قارّا. أتساءل الآن: أيّ الحدثين هو الحلم، وأيّهما الواقع؟ الاثنان لا وجود لهما، طالما أن أحدهما يحلّ مكان الآخر. بعبارة أخرى: الواقع والحلم عبارة عن فقاعتين متماثلتين تؤكدان الخواء والعدم، وهما ميزتان لعالم الصّحو والنّوم اللذين يسبح الجميع في بحرهما، والانتباه منهما يكون لا محالة بواسطة الموت، اليقظة الوحيدة التي تجمعنا دون استثناء. هذا ما تذهب إليه الديانة البوذيّة التي تقول بوَهمية العالم، وأنها ليست سوى حلم حالم، وتؤيّدها في ذلك جميع معتقدات بقيّة الشعوب، والحديث النبويّ: «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا» فيه تأكيد على هذه الفكرة، وقد جاء تعزيزها في تفسير الآية 48 من سورة الزمر: «الله يتوفّى الأنفس حين موتها، والتي لم تمُتْ في منامها فيُمسكُ التي قضى عليها الموتَ ويُرسلُ الأخرى إلى أجلٍ مسمّى إن في ذلك لآياتٍ لقوم يتفكّرون».
هناك علاقة وثيقة بين اثنين يعيشان في مكانيْن مختلفيْن، ويجمعهما حلمٌ يراه أحدهما، ويصل الثاني حتما بطريقة ما. هل بلغ شيء من رؤياي إلى رائد الشفي؟ لا أريد أن أنحرف في موضوع مقالي إلى جادّة أخرى لا تؤدّي، وأشاء أن أختمه بطرفة لا أتذكّر أين قرأتها. يقول نقّاد الأدب، إن الكاتب الذي يجلس إلى مكتبه جامدا مثل شجرة عجوز، ويحاول العملَ تحت إلحاح ضرورة تجهده وتشقيه، لا يأتينا بأعمال مهمّة، والسبب يعود إلى أنه يعمل بيديه. بينما يتم الإبداع عندما يجوس الفنّان بقدميه، خلال أنحاء نفسه التي يسكنها كما لو في غابة، ويسوح كذلك في الأمصار والديار، يتجوّل في الشوارع ويذرعها جيئة وذهابا بحثا عن المفردة أو الفكرة، يُبدع لنا عندها أدبا عظيما، ويُدعى عمله «الكتابة بالقدمين». عندما طلب أحد الزوّار من خادمة الشاعر ووردزوورث أن تذهب به إلى مكتبه ومكتبته قالت له: «هذه هي مكتبته، أما مكتبه ففي الهواء الطّلق».