لفت نظري في إعلانات متكررة ومكثفة لإحدى دور النشر، أنهم يتحدثون عن الاستقرار الإبداعي، وراحة البال عند التعامل معهم، ويقبلون الأعمال الكتابية التي لم تكتب بعد، ويعرفون مسبقا أنها ستكون رائعة، وهم يقومون بلكز الكتاب الكسالى، وإيقاظهم لكتابتها، وإرسالها لهم، وانتظار الحصاد الذي يأتي سريعا.
الذي يطالع إعلانات مثل هذه، حتى لو لم يكن مدربا على الشقاء الكتابي مثلنا، لا بد أن يشم رائحة بيزنس ما، يربض خلف تلك الإعلانات المغرية، فلا توجد دار نشر في الدنيا كلها، تحرص على أن يكتب أحد ما، حتى لو لم يكن كاتبا، ما لم يكن مستعدا لتمويل نشر كتابه، أي يدفع تكلفة مبالغا في حسابها، ليرى كتابه منشورا. وإعلانات مثل هذه لا تخاطب كتابا تمرغوا في القلق والترقب، وحفيت أقدامهم من مطاردة دور النشر سنوات لينشروا، وسنوات أخرى لاستخلاص حقوقهم، التي غالبا لا تستخلص. والتجارب كثيرة، ولو سألت أي مبدع من جيلنا، لسرد عليك حكايات مطولة عن التعب والإرهاق، وأيضا الاكتئاب الحاد، حين يرى نتاجه منتشرا في المكتبات ومعارض الكتب، وفي أيدي أعضاء نوادي القراءة، بينما لا شيء ماديا يعود إليه، إنها ملاليم قليلة، لا تفي حتى بثمن وجبة عند ماكدونالدز أو كنتاكي.
الاستهداف التجاري معروف، أي أن تصاغ دعاية من أجل فئة ما، أو يقام نشاط تجاري، ليس للجميع ولكن لفئة بسيطة، يعرف المستثمر أنها ستسند استثماره كثيرا. وأذكر أنني التقيت في إحدى إجازاتي في مدينة بورتسودان بمستثمر كان يبحث عن موقع جيد لتأسيس مطعم فاخر. كنا في الصيف وكان ثمة شح في الماء، ورغيف العيش، والوقود، وأزمات كثيرة تجعل الناس يتراصون في صفوف طويلة من أجل الحصول على احتياجات قليلة. وبدافع الاستغراب سألت المستثمر الذي كان يجلس بجانبي على مائدة إفطار تضم عددا من الناس: كيف تؤسس مطعما أرستقراطيا في زمن كهذا؟
رد ببساطة: عفوا، هل تظنني أستهدف هؤلاء الذين يتراصون في صفوف الاحتياجات؟ لا زبائني موجودون، وأعرف أنهم موجودون.
إذن الأمر كذلك، أن يكون ثمة بزنس يستهدف البعض، ولا يخاطب البعض الآخر، ومناداة الناس ليكتبوا وينشروا ما كتبوه، حتى لو لم يكونوا كتابا من قبل، ليس لي مؤكد، وليس لكثيرين مثلي، إنه لأناس سيكتبون أي شيء، ويقوم محررون موجودون في دار النشر بتعديله، أو حتى إعادة كتابته، لينشر بعد ذلك تحت اسم دفع صاحبه كثيرا ليحدث ذلك.
وفي تجربتي في الإشراف على ورش الكتابة، كنت أصادف نصوصا كثيرة، كتبت بلا موهبة، ولا دراية، وهناك نصوص كتبها مشاركون لم يقرأوا حرفا واحدا من قبل، لكن وجود هذه النصوص داخل الورشة، ومشاركتنا في مناقشتها وترتيبها، يحولها إلى نصوص صالحة للقراءة.
منذ سنوات تحدثت عن ما سميته ثقافة الألف دولار، وكانت الألف دولار التي يطلبها بعض الناشرين من الكتاب مقابل نشر نصوصهم، آنذاك، مبلغا كبيرا جدا، تستطيع أن تشتري به سيارة مستعملة جيدة، أو تسكن به في فيلا كبيرة، أو تسافر به في رحلة سياحية إلى أي مكان. كتبت أن الألف دولار تلك أخرجت لنا روايات لا يمكن تسميتها روايات بأي حال من الأحوال، وعاتبني الكثيرون في ذلك الوقت بأنني أنادي بحصر الكتابة على من ينشرون مجانا، وكان فهما غير دقيق، فقد كنت أتحدث عن رفضي لمبدأ إشراك الكتاب سواء أن كانوا موهوبين أو غير موهوبين في تلك الخسارة الكبيرة.
الآن مؤكد، ومع التغيرات التي حدثت في العالم، وتلك الصياغة الجديدة التي صاغها كوفيد-19 للبزنس في أي مكان، لم يعد الألف دولار مبلغا طائلا ولا جذابا لكثير من الناشرين، وأظنه تضاعف ليصل في بعض الأحيان إلى عشرة آلاف دولار، تتيح حتى لشخص أمي أن يكتب رواية، ويرسلها مرتاح البال، ليحررها آخرون، بينما هو يسترخي منتظرا المجد الآتي بحسب تلك الإعلانات.
الكتابة عمل مهيب بلا شك، عمل فيه إجرام ما، وذلك حين تستخدم الخيال في كساء مفردات الواقع، فتبدو الصيغ مموهة، وغامضة وعذبة. وبهذا الافتراض، نترقب كتابة الموهوبين، ونود لو استطعنا العثور عليها وسط ذلك البزنس الضاري، الذي يريد أصحابه ما يملكه الكاتب الثري، ولا يمنحون ما عليهم للكاتب الفقير المبدع. وأظن أن الأمر ليس خاصا بالعرب وحدهم، بحسب تجربتي، فالدور الأجنبية أيضا تعلمت التمويه والمماطلة، هؤلاء قد يدفعون مقدما بسيطا للكاتب، ويجلس بعد ذلك دهورا في انتظار حقوقه المؤجلة، ولا تأتي، وغالبا لا يردون على رسائله المستفسرة، كأنه يوجهها للهواء، أو للحوائط السميكة، أو لا يكتبها على الإطلاق.
كانت هناك دار نشر أجنبية نشرت لي كتابا، وظلت زمنا طويلا صامتة، بلا أي تحرك إيجابي في مسألة الحقوق، وكان أن تعبت رسائلي وتوقفت عن التوجه إليها، ثم فجأة ظهرت دار نشر كبرى، أرادت شراء حقوق الكتاب، ولم يعثروا علي، وجاءني أولئك مسرعين، وأرسلوا لي عقدا يقاسمني اللقمة الكبرى، التي لم ترسل لي أي لقمة ولا أظنها سترسل.
ومع ذلك حين تحكي مثل هذه التجارب، يظن الآخرون أنك تبالغ، ولا يصدق الناس ما تكتبه، إلا حين يخوضون تجارب مماثلة، أي حين يترجمون للغات أخرى، ويظل الكسب المادي صفرا أجنبيا، شديد الشبه بالصفر العربي.
أنا أقول، وأصر على القول، برغم متعتها، أن الكتابة مشروع الخسارات: خسارة الجهد والوقت، والأفكار، والحياة الاجتماعية، حين يربط المبدع نفسه إلى طاولة وكومبيوتر، وليست أبدا مشروعا استثماريا، أو مهنة حياة وأسرة. أنت لا تستطع أن تكتب في هويتك: المهنة كاتب، إلا لو كنت من أولئك المستهدفين من إعلانات راحة البال والاستقرار الإبداعي. أيضا لا تستطيع أن تتقاعد معتمدا على مكافآت من هنا وهناك، فالناس يطلبون قلمك كثيرا في مهمات عديدة، تقوم بإنجازها، لكن مكافأتك تزحف إليك ببطء شديد، وقد لا تصل أبدا.
*كاتب من السودان
أصابالكاتبكل الحقيقة في هذا المقال.تحية قلبية له!
اتاحة فرصة الكتابة والقراءة للجميع سيفسد على المدى الطويل ليس الكتابة فقط بل التفكير ايضا