الكتابة وأنشطة أخرى

مرة كان عندي أمسية في أحد معارض الكتب الخليجية، وذلك للتحدث عن الكتابة والهوية كما أذكر، وهذا موضوع جرت العادة على طرحه باستمرار في محافل كثيرة، كما أننا نكتب آراءنا في هذا الصدد من حين لآخر، باعتبار أن الكتابة مرآة جيدة للهوية.
كان من المفترض أن نبدأ ندوتنا في الخامسة مساء، وكانت هناك محاضرة سابقة عن ما يسمى بالتنمية البشرية أو تنمية الذات، قد بدأت منذ ساعة أو أكثر، وينبغي أن تنتهي قبل الخامسة بقليل لنبدأ نحن، لكن تلك المحاضرة لم تنته، كانت السيدة التي تتحدث في الموضوع، شديدة الحماس، تتحدث بيديها، ولسانها وقلبها أيضا عن موضوع أصبح من المواضيع المحببة للناس في الفترة الأخيرة، وكثر الذين يدعون تمكنهم منه، ويمارسون الخطابة والكتابة، وإرشاد الناس إلى حل مشاكلهم، والتنفض من حياتهم السلبية، واكتساب حياة أخرى كلها إيجابيات.
المهم أنني جلست أستمع بلا خيار آخر، وأراقب انفعالات الناس، المتناغمة مع انفعالات المتحدثة، أشاهدها تقترب من بعض الناس، تتحدث بهمس مسموع: تنفسوا بعمق، تنفسوا أحبابي، تركض إلى وسط القاعة، تصرخ: مالكم صارمون هكذا، اضحكوا على أي شيء، تخيلوا أنكم في سيرك وهناك فتاة معلقة من قدميها، اصرخوا، كانت علامات الانبهار ما تزال مرسومة هنا وهناك، قد تزيد لكنها لا تخفت، وأظنني كنت الوحيد وربما معي عدد من الأدباء جاءوا ليستمعوا إلي، لم نفهم أي شيء.
وحقيقة كانت تلك المحاضرة، التي أكلت قرابة الساعة من زمن محاضرتي، وجعلتني أختصر كثيرا في ما بعد، شيئا غامضا بالنسبة لي، أحسست معه بالنقص، وأن هناك أمورا في الحياة، ينبغي معرفتها، ليس لمنفعة فيها، ولكن لمجرد العلم بالشيء. وهذا الكلام لا ينطبق على موضوع التنمية الذاتية هذا بالتحديد، وإنما مواضيع كثيرة جدا، تغص بها الحياة، أبسطها أن تتعلم كيف تبتسم بعمق، وكيف تخاطب الغرباء، وكيف تخترع لك شعرة شبيهة بشعرة معاوية، إن شدها أحد أرخيتها، وإن أرخاها أحد شددتها. وأظن أن تسويق الكتابة الإبداعية سواء أن كانت شعرا أو نثرا، بحاجة لذلك، أي لنفس طويل، وصبر بلا حدود واحتمال ما ينتج عن ذلك.
تلك الفتاة المحاضرة كانت تسوق لمفهومها الخاص، مستخدمة جاذبية ما، قطعا لا يملكها المبدعون في مجالات الكتابة، أيضا تملك إيمانا بأهمية ما تقدمه، حتى لو لم يكن شيئا يذكر، غير عابئة بالزمن الإضافي الذي أخذته من غيرها، وبالطبع إدارة ندوتها وندوتي تواطأتا أيضا، واستمر ذلك الكلام الغامض مهيمنا، والانبهار الغريب مهيمنا أيضا، وقد قلت لأحد أصدقائي وكان ينتظر متململا قربي، أن لا أحد سيعتذر لنا، وهذا ما حدث بالفعل، كان الحضور الكثيف قد تلاشى بانتهاء محاضرة التنمية البشرية، والتف الناس خارج القاعة حول المحاضرة، يطلبون رقم هاتفها، ويسألونها عن كتاب ستقوم بتأليفه، وإن كان سيكون حاضرا في معرض الكتاب القادم؟
لم أرد بهذا الكلام، أن أشير بسلبية لما يسمى بالتنمية البشرية، أو تنمية الذات، والتي تجد دائما على أغلفة كتبها المترجمة، عبارة: الأكثر مبيعا بحسب «نيويورك تايمز» أو بحسب «ديلي نيوز» وقد حاولت بعد أن حضرت جانبا من تلك المحاضرة قسرا، أن أقرأ في هذا الموضوع، ولم أستطع، كان الكلام نظريا جافا، وبعيدا عن تذوقي القرائي، واعتدت في قراءاتي، أن أحب الأسلوب أولا قبل التعمق في القراءة.
إذن من الواضح أن جاذبية الكتابة الإبداعية ليست بخير، وأي مبدع الآن، بجانب معاناته من الكتابة الشاقة، والناشرين المصرين على تهميشه، وإلغاء حقوقه، يعاني من المنافسة في مجالات أخرى جاذبة للناس، لقد تحدثنا كثيرا عن موضوع القراء، ووجودهم أو عدم وجودهم، وتحدثنا عن القرصنة، وسرقة الجهد، والأحوال الاقتصادية التي تجعل القراء، حتى المحترفين منهم، يلجأون للكتب المقرصنة على الإنترنت، توفيرا للمال، لكن هذه المحبطات الجمة، لا تبدو موجودة حين نتطرق للمجالات الأخرى التي ينغمس فيها نفس هؤلاء الناس، ومنهم الفقراء بالطبع، أولئك الذين يشترون بأي ثمن كتبا تدغدغ آمالهم، لكن قد تمنحم أملا وقد لا تمنحهم أي شيء، ويقلبون رواية لموراكامي، أو ماركيز، وهم يقلبون شفاههم امتعاضا من سعرها، حتى لو كان زهيدا جدا.
وكنت اتفقت مع بعض دور النشر، على طبعات شعبية من أعمالي، كمحاولة لدعم القراءة إن وجدت، ولا أعرف النتيجة حتى الآن، أي إن كانت التجربة نجحت أم لا؟
أيضا الحفلات الفنية، تلك التي يقيمها مطربون بعضهم ما زال في فترة الحضانة الفنية، وتباع تذاكرها بأسعار خرافية، وربما تنفد التذاكر باكرا جدا، ويتزاحم الناس يوم الحفل، يتحدثون في سخط عن عدم عثورهم على تذكرة، وبإمكان أي واحد أن يعثر على الأغنيات التي تردد في الداخل، على هاتفه من دون عناء.
لماذا إذن لا يمتعض أحد، ولا يقلب شفتيه اشمئزازا، أو تجحظ عيناه أمام قيمة التذكرة؟
إنه شيء لا علاقة له بأي شيء، الكتابة والفن، وكرة القدم، كلها أنشطة إنسانية، تتساوى في ثانويتها إذا ما قورنت بلقمة العيش، أي أن الإنسان سيموت إن لم يجد ما يأكله، لكن ذلك لن يحدث إذا لم يقرأ رواية، أو يستمع إلى أغنية، أو يشاهد ميسي وإبراهيموف، في دوري كرة القدم الأوروبي، فقط تأتي القيمة المكتسبة، والانحياز لنشاط ضد نشاط آخر، ولعلنا نتعلم باكرا كيف نلعب كرة القدم، في الأزقة والحارات، ونطرب للفنانين ونردد أغنياتهم، ولكن نادرا ما نتعلم قراءة الكتب.
وواضح جدا أن لا حل هناك، ستظل الأمور راكدة خاصة في عالمنا العربي، بلا أي حلول.
*كاتب من السودان

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول ضفيرة:

    الصورة كما رسمتها سيدي الفاضل قاتمة بحق إذ لا سياسة ثقافية تشجع الأفراد على الاهتمام بالقراءة والاحتفاء بالكتاب وإكبار شأن الكتاب في المقابل نجد استثمارات ضخمة في مجالات أخرى مرتبطة في غالبيتها بالجانب الاستهلاكي ولا تقدم أي شيء يطور الانسان معرفيا. الوضع مأساوي والمجتمعات العربية في انحدار متواصل ما لم يجتهد الأفراد في تطوير قدراتهم والاهتمام بما من شأنه أن يفتح مداركهم على الأمور الأصلح وطبعا القراءة هي المدخل والوسيلة الوحيدة للتحليق في رحيب الٱفاق المعرفية.
    ضفيرة

إشترك في قائمتنا البريدية