الكتابة والخلود

أنا أكتب وقلما أطرح على نفسي سؤالا شرعيا يخيفني: لماذا أكتب؟ كم كان الجاحظ سعيدا حين نظر إلى الأمر بقداسة من يسعى إلى الخلود حين قال في كتاب «الحيوان»: «قد يذهب الحكيم وتبقى كتبه ويذهب العقل ويبقى أثره». الكتابة عنوان تخليد أن كان الكاتب حكيما، وهي أثر إن كان ما يكتبه دالا على عاقل يزن الأشياء بموازين العقل والحكمة.
حين نقرأ رولان بارت نجده كاتبا لا يطمع بالكتابة في الخلود، ففي حديث صحافي نشر في 20 إبريل/نيسان 1980، أي بعد وفاته بشهر تقريبا، يسأله الصحافي ما الذي يجعلك تواصل الكتابة؟ فيقول: «إن الكتابة إبداع وفي هذا المضمار ينبغي أن تكون الكتابة إنجابا. إنها طريقة في مكافحة الشعور بالموت، وفي الهيمنة عليه وفي التحرر الكامل منه».
قد يفهم من هذا القول ما يفهم من قول الجاحظ، من أن التحرر من الموت يعني السعيَ إلى الخلود، لكن رولان بارت يقطع الطريق على من يريد أن يربط بين التحرر بالكتابة من الموت والسعي إلى الخلود فيقول: «لا يتعلق الأمر البتة بالاعتقاد بأن يكون المرء بما هو كاتب خالدا بعد الموت، الأمر لا يكمن في هذه المسألة». لا يمكن أن يفكر سيميائي كرولان بارت في الخلود بالكتابة مثلما فكر فيها الجاحظ، فالعصر غير العصر، والرجل غير الرجل ولكن لماذا ارتبطت الكتابة بالخلود أصلا سواء أكان منفيا أم مثبتا؟
تقدم لنا اللسانيات معطيات أولية هي غير كافية ولكننا يمكن أن نبني عليها تأصيلنا لهذه الفكرة التي تربط بين الكتابة والخلود. فمن المعلوم أن التلفظ عملية خطية زمانية؛ إذ لا يقع اللفظ أو جزؤه إلا سابقا لغيره، أو لاحقا له فهو متعاقب أو خطي في محور الزمان، لا يعود أدراجه ولا يستبق شيئا، لكنه وهو بهذه الخطية يموت حين يتحقق، ولا يمكن أن يبعث من جديد إلا بشكل من أشكال التسجيل أو التصوير.
التسجيل تقنية معاصرة تمكن الأصواتَ أن تُخزن في الآلات لإعادة استعمالها، كما لو أنها تقال لوقتها؛ إنه ضرب من إعادة بث الأصوات لغرض ما في نفس من يعيد بثها. يوجد ضرب من التجانس بين إعادة البث وإعادة البعث، ما دمنا نتحدث ههنا عن سياق نقارن فيه بين موت الأصوات وهي تنجز مباشرة، وإعادة بثها من جديد. من المعلوم أن الكتابة هي كما يقول القدامى من العرب تصوير اللفظ بالخط ولذلك يمثل الخط علامة أخرى، علامة تصويرية بصرية تمثل علامة صوتية نطقية. لا يمكن تصور كتابة بلا كلام أو لفظ، ولكن العكس ممكن. ولئن كان الكلام أو اللفظ يرتكز على عناصر زمانية، فإن الكتابة ترتكز على عناصر الفضاء، وهذا ما يجعل الكلام الشفوي زائلا، هباء منثورا، سواء أكان نثرا أم شعرا، لكن الكتابة قابلة أن تعيده أو تخلده بواسطة تخليده في الفضاء، سواء أكان ذلك الفضاء من الورق أو من غيره. حين ارتبط الخط بالخلود، كان يفهم من الخلود لا الاستمرار على مرّ كل الأزمان، بل على أنه استمرار على امتداد مرحلة متطاولة بعد موت من يترك الأثر للسالكين.

حين يموت المرء وتخلد أفكاره لا قيمة لحياة ارتدادية من بعده، إلا بمنظار من لم يمت بعد، أما من يريد بذورا دوارة فإنه يرتد إلى مرحلة جنينية؛ يتمنى فيها لو يظل جنينا يحمل ولا يولد.

حين رسم رجل الكهوف رسوما تواصلت إلى يومنا، كان يكتب كما نكتب نحن اليوم، ولكنه كان يستعمل أدوات تصويرية، ونستعمل نحن اليوم الكتابة بوحدات خطية رمزية. لا أحد يقول لنا أن من رسم تلكم الرسوم كان يريد الخلود لنفسه، كان وقتها يرسم وكفى، وتكفل الفضاء وتكييفه بأن يحفظ لنا رسومه التي نعتبرها اليوم خالدة، ولكنها لم تخلد أحدا، بل خلدت نفسها. خلدت الرسوم بهذا المعنى، أي دامت في المكان واستمرت عبر الزمان فيه. الخلود متعلق بالرسم بما هو أثر دال على صفات من رسمه، أو على تمثله لبعض ما رسم ولكنها آثار مجهولة النسب وهي غير التي يقصد الخلود منها في نصي الجاحظ وبارت.
الكتابة بما هي تصوير للفظ بالخط لا ترتبط بالخلود، إلا من جهة نوع الكتابة لا من جهة كونها كتابة مطلقا. الكتابة الخالدة هي الكتابة التي تستحق أن تستمر لحاجة الأجيال اللاحقة إليها. كتاب «الحيوان» نفسه الذي حوى قولة الجاحظ ينطبق عليه لفظ الكتابة الخالدة، لأنها استمرت من عصرها إلى عصرنا على امتداد اثني عشر قرنا، وهو زمن متطاول يخول له أن يعد مقاسا للخلود. لكن ما الذي جعل كتاب الجاحظ يخلد، ليخلد اسم صاحبه؟ أهي حاجة العرب إلى أن تثبت فيه صفاتها الثقافية كأن تحتج به على أن لها مثلا منزعا عقليا في الأدب؟ أم لبيان صورة من صور العلوم القديمة التي تريد أن تعكس سلوكها على سلوك الحيوان؟ أو لأنه كتاب ذو لغة راقية وتفكير موسوعي يحيل على تصور للأدب؟ قد يكون الأمر هذا أو ذاك، المهم أن الكتاب خلد وعبر بما هو قول إلى ما فوق زمان كتابته. لم يكن الجاحظ وهو يكتب ينوي أن يكون خالدا، لا هو ولا كتابه، وإن كانت هذه الفكرة من بنات أفكاره. قد يصل المرء إلى الحقيقة اعتمادا على أدلة خارجية، وهي أدلة لا بد أن ينفيها المستدل عن نفسه. إذ لا يمكن للجاحظ أن يتكهن بأن ما سيكتبه سيسافر عبر الأزمنة ليصل إلينا ولا يمكن لأي كان وهو يكتب أن يتخيل ذلك إنما كان الجاحظ وهو يكتب يروم أن يطلع على ما يكتبه غيره، وأقصى ما يريد الكاتب أن يرضي من يكتب له. إرضاء الكاتب من يكتب له لا يوصل إلى درجة الخلود، فهو رغبة وقتية لا تبرر جمال الكتابة الأدبية، أو متانة العقلي في الكتابة العلمية، أو حكمة الكتابة الحكمية؛ الرغبة في الكتابة لرغبة خارجة عنها هي من أهم الأسباب الأساسية في أن توجد كتابة.
لكن الرغبة التي تدفع إلى الكتابة لا بد أن يوجهها شيء هو بمثابة المحفز الأكبر لها، هو ما يسميه بارت القدرة العقلانية التي لا تعني ما له من طاقة عقلية تراقب الكتابة، أو تحسن التخطيط لها أو توجهها، بل أن يحسن الكاتب استعمال هذه القدرة العقلية على الإنتاج العلمي أو الأدبي أو الفلسفي أو غيره. وهذه القدرة العقلية تفترض أرضية أو خلفية تقع عليها، فعلى سبيل المثال فإن الأرضية التي تسمح بالحرية وبالأخلاق يمكن أن تقود إلى ضرب من الكتابة تتسع دائرتها لتصبح قابلة للنقاش أو الجدل وإلى الاستمرار والاتساع في الفضاء؛ لكن الأرضية التي لا تسمح بالحرية وتفرض ضربا من الإيتيقا ستقود إلى كتابة منكفئة على نفسها غير نافذة في التاريخ.
الخلود ليس مطلبا مهما في ذاته لأن ما يصنعه لا يقتصر على القدرة العقلانية للفرد، بل على محيط ليس الكاتب فيه مسؤولا. لذلك يتحدث بارت بدلا من الخلود عن توزيع البذور أو البراعم، وجعلها تروج بين الناس. الكاتب الخالد ليس هو الكاتب الموزع لبذوره بين الأراضي التي تقبلها والعقول التي تتبناها. هذه استعارة أخرى تريد التوريث ولا تريد التخليد. غير أن اشتراكية التوريث، التي يعبر عنها بارت تريد للأفكار المكتوبة أن تروج وهي تمر بحركة دوران عامة، ينشر فيها المبدعون من الناس وهم أصحاب البذور بذورهم، وطبعا لا بد أن تعرف قوانين الوراثة: إنه لا يمكن للبذور المريضة أن تنتقل وأن تستمر.
حين يموت المرء وتخلد أفكاره لا قيمة لحياة ارتدادية من بعده، إلا بمنظار من لم يمت بعد، أما من يريد بذورا دوارة فإنه يرتد إلى مرحلة جنينية؛ يتمنى فيها لو يظل جنينا يحمل ولا يولد.

أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية