ارتبط ظهور الجنس الروائي بظهور المدينة باعتبارها ظاهرة مجتمعية متكاملة، غيرت معالم المجتمعات، وعدّلت من سلوك الأفراد، واستنبتت بفضلها، علاقات جديدة، ومؤسسات جديدة، وأسئلة وجودية واجتماعية واقتصادية لم تكن متوفرة من قبل، مع القرى والبوادي والمجموعات البشرية المرتحلة. فمع هذا المعطى الإنساني الجديدة، تأتى للإنسان تحقيق نعمة الاستقرار وخلق ألفة مع المكان، وتشكيل نواة مجتمعية قابلة للتطور واستمرار المتحقق على جميع الأصعدة، السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية والثقافية.
لكن مع ذلك، باتت القرية أو المجموعة البدوية متماسكة، وظلت متواجدة إلى جانب المدن المتعاظمة، على الرغم من الإثارة التي تمارسها المدن على الفرد، حيث تمكنت من استقطاب ساكنة كبيرة جدا في ظروف قياسية. الشيء الذي جعل الرواية وباقي الأنواع الأدبية تحار كيف تتعامل مع المعطيين معا في السياق ذاته، ونجم عن هذا جنوح كثير ممن أسموا أنفسهم «مبدعين متنورين» إلى تهميش هذا الفضاء السوسيولوجي، وتجاهله في كتاباتهم، معتبرين إياه منقصة، وواسمين إياه بالفضاء غير المؤهل ليكون مكونا في العمل الروائي، لكونه نوعا أدبيا مدينيا ارتبط ميلاده بظهور هذا الفضاء الجديد. وظل كثير من الشباب المجدد في مجال الرواية يسعى إلى مقاربة فضاء البادية في متونهم، لما يرون فيه من خصوصيات تغني هذا النوع الأدبي، وتتماشى مع معاييره الشكلية والفنية، خاصة أولئك المتحدرين من أصول قروية أو بدوية الذين يجدون أنفسهم، لضرورات حياتية، منخرطين في فضاء المدينة، لكن متخيلهم وذاكرتهم يظلان يعودان بالكاتب بين الفينة والأخرى، إلى هذا الفضاء، فيوجد لذلك صدى في كتاباتهم. ويظل لهذا الحضور، لمسوغات ملتبسة وأسئلة وجودية غامضة، سحر خاص عليهم، لا يضاهيه سوى سحر الكتابة ذاتها، بل إن كثرا من الروائيين ارتبطت كتاباتهم الروائية بهذا الفضاء مثل يحيى الطاهر عبد الله، الطيب صالح، جوخة الحارثي، نور الدين وحيد..
رؤية سوسيولوجية:
لقد انطلق الروائي في تصميم عوالمه الروائية المنبثقة عن فضاء أساس هو فضاء القرية، من تصور سوسيولوجي واع، يرى الوضع البدوي كمفصل تعبره البشرية، استنادا إلى رؤية العديد من السوسيولوجيين الذين درسوا المجتمعات البدوية والبدائية، التي صنفت القرية في درجة أقل مقارنة مع المدينة. وسلط الروائي، الذي عاش جزءا من طفولته على ما يبدو في القرية، مشرطه التشريحي على المسكوت في الفضاء والعلاقات البنيوية الدقيقة في البادية، متخذا من مدخل الجنس إطارا لفهم العلاقات المعتمة والمعقدة بين أفراد الأسرة الواحدة التي تكبر لتصبح في ما بعد قبيلة، وقد تشكل ساكنة القرية برمتها، التي تبدو في الأصل، أسرة جنينية، تطورت مع الزمن. واستفاد هشام ناجح من خبرته كمعايش لفضاء القرية، مثلما استند كذلك لتراكمات قرائية للبحوث التي أنجزها سوسيولوجيون مغاربة أو أجانب حول البدو والبادية. ومن بينها أبحاث بول باسكون حول شباب العالم القروي، وبخاصة في ما يتعلق بأساليب تصريف الشهوات والتخفيف من ضغطها في مرحلة حساسة هي مرحلة المراهقة، في أفق يضيق بأهله في هذا الجانب، وتنعدم فيه التربية على هذا الأساس، وتكثر فيه الممنوعات والمحظورات والتابوهات، بينما تفتح كوات خرق هذه الحدود في الستر. لقد أفضت أبحاث باسكون إلى نتيجة مفادها أن ظاهرة الجنس المحرم هي جماع وممتص كل الممارسات الأخرى التي تتمظهر في المجتمع القبلي مقنعة ومشوهة. وهي النظرة نفسها التي سيصدر عنها المتن الروائي في منجز ناجح «دوار الكية» الذي ينطلق من عنونة متواطئة وغير بريئة إطلاقا.
الجنس المحرم:
نتابع في الرواية حضور ثيمة الجنس المحرم، كثيمة مهيمنة تكون بمثابة دائرة الخط الأحمر الذي يريد المتن انتهاكه. وأول انتهاك للحرمات، قتل صورة الأم التي باتت شبه مقدسة في الأعمال الروائية المغربية المؤسسة، ويكفي أن نذكر أعمال محمد شكري، وأعمال محمد برادة، كلاهما يمجدان الأم ويعليان من مكانتها النفسية والاجتماعية في الشخصية الرئيسة نفسها، على عكس شخصية الأب التي باتت مغيبة إن لم نقل معدومة، وإن حضرت، حُمّلت، بشكل أو بآخر، كل القيم المزيفة.
وقد سعى، الروائي المنحدر من أصول بدوية، الذي يريد هنا أن يجعل من متنه متنا بدويا خالص المعجم والقيم، إلى كسر هذه القاعدة التي باتت تقليدا مكرسا في المتن الروائي المغربي، من خلال الإعلاء من صورة الوالد، وتبخيس صورة الأم إقرانا لها بالصورة التي تتركز عبرها في المتخيل الشعبي كقرينة للشيطان، ومرآة للشر، ومجلبة للعار، فقد صور الراوي- الشخصية والدته في أبشع صورة ممكنة إلى حد أنه اعتبر أكبر خطأ ارتكبه والده هو الزواج من تلك المرأة (الأم) التي جمعت كل الصفات الذميمة التي يمكن أن تلتصق بامرأة، الشيء الذي جعل والده، وهو كذلك، ينفران منها. واشتد تحامله عليها (الأم) لما تركته في حضن امرأة أخرى، ورحلت عن الأسرة، ما دفع الأب إلى اتخاذ القرار الصائب، والزواج من امرأة جميلة، ستحب الوالد، وتغدق عليه ما لم تستطع والدته إغداقه عليه طيلة الفترة التي عاشها بقربها. فأحب الراوي – الابن هاته المرأة، وتعلق بها لأنها عوضت لديه ذاك النقص النفسي الذي تولد لديه من خلال غياب والدته البيولوجية التي رسمها بلا إحساس أموميّ. ولعل أول مؤشر دلاليّ للجنس المحرم هو الميل الغريب للفتى المراهق، الذي هو الراوي، إلى زوجة والده، وافتتانه بجمالها، وثاني هاته المؤشرات؛ الميول الجنسية الشاذة لدى شخصيات النّص الروائي، سواء من خلال الحضور القويّ للتّمثيل الجنسيّ عند الدّواب والحيوانات، أو من خلال سيادة زنا المحارم، وخيانات الأقارب… وهو عالم يتبدى في النص بشكل مقزّز ومقرف إلى حدّ أن البادية، في هذه الصورة، تبدو أقرب إلى القمامة البشرية التي تختلط فيها كل البشاعات والقذارات، وتتعطن فيها القيم الأصيلة.
تتّخذ الرّواية، على عاتقها، إفراغ الشحنات السّالبة للراوي والشخصيات المرافقة له، وتحويلها إلى فونتازم لغوي شاذ، ومقبور في اللاوعي، لتشكّل بذلك مغسل هذا المتراكم المشلول حول ثقافة الجسد، ومزالقه.
محكي ذاتي يدين الهشاشة المجتمعية
اختار الروائيّ هشام ناجح لروايته، قالب المحكي الذاتيّ لأنّه الأقرب إلى استيعاب الأسئلة الذاتية والموضوعية التي يطرحها، فتداخل ذات الكاتب مع ذات الراوي من جهة، واتخاذ الراوي ضمير المتكلم قناعا للحكي، وارتباط الكاتب الفعلي وجوديا بمجال القرية، من جهة ثالثة، كلها أدوات تسهل مأمورية تطوير المتن أفقيا وعموديا، حيث كان يصول الراوي ويجول بدون اهتمام بأمر الصوغ، وكأنه يترك للسجية والمشاعر والأنا الأعلى أن تحكي وتبوح بصوت عال، من غير تهيب من انسيابية المادة الحكائية وتدفقها وفق إيقاع لا تحكمه سوى وحدة المجال، والتّركيز على الحمولة النّفسيّة الجسديّة للمكبوت الشعوريّ، وإفراغ محتواه السيكولوجيّ.
تتّخذ الرّواية، على عاتقها، إفراغ الشحنات السّالبة للراوي والشخصيات المرافقة له، وتحويلها إلى فونتازم لغوي شاذ، ومقبور في اللاوعي، لتشكّل بذلك مغسل هذا المتراكم المشلول حول ثقافة الجسد، ومزالقه، وحرائقه الملتاعة، خاصة في فترة عصيبة، هي مرحلة المراهقة والشباب الأوّل، وما يصاحبهما من تحوّلات فيزيولوجيّة وسيكولوجية تنعكس على طريقة التفكير وردود الأفعال تجاه الذات والجسد والآخر والمكان، حيث يتهيأ للكبت، في فضاء محاصر بالخواء، مسيج بالخيبات، مغلول بقيود فولاذية من الفقر والحرمان، ومسقوف المصاريع بثقافة المنع والتحريم والعار، أن يتضخم، ويتنامى، ويتفجر في صور متعددة أهمها ما أشارت إليه مشاهد متكررة من المحكيّ الروائي، من قبيل: توظيف لغة عنيفة وشبقة ومتعهرة، كشف أنواع الشذوذ، ومظاهر الاغتصاب والتحرش في البادية، بأسلوب ساخر حينا، ومنفر حدّ التقزز من جهة أخرى، ناهيك عن كل الأشكال البوهيمية والضياع التي تغرق فيها شخصيات في بداية اكتشافها لطعم الحياة. لقد كان لجغرافية الفضاء وقساوته، وطبيعة أناسه المتوحشة التي لا ترحم صغيرا ولا كبيرا، ولا تلتمسُ العذر لامرأة أو طفل أو عليل، انعكاس سيئ على ملامح الشّخصيّات، وردود أفعالهم المتوتّرة، والمتمردة بعيدا عن التّعقل والرّزانة. وكأنّ المتن، بهذا التفريغ السّيكولوجيّ، والبوح القاسي بثورة الرّغبات، واستنفارها للملفوظ، يريد تطهير الذوات وغسلها من تلك الشوائب التي علقت بها، فعكرت صفو سجيتها، وحوّرت اهتمامها من التمثيل الإيجابي للحياة إلى التجلي المكشوف لانفعالات هجاسية راكمها الكبت والحصار والمصادرة والمنع والحرمان، وطمس الحاجات.
بين التذويت والتغريب:
إذا كان ناجح في هاته الرواية يذوت محكيه، ويلقي عليه طابعا من الواقعية التي تمليها الكتابة السيرذاتية الجانحة إلى الفضح والبوح والتعرية والنقد المبطن لخصوصيات الذات والهوية المنبثقة عن تصور للعالم، وأسلوب متواتر في التفكير والسلوك والعيش، فإنه في مجموعته القصصية «وشم في السعير» التي صدرت قبل هاته الرواية بسنوات، تختلف جوهريا من حيث الثيمات والقيم المتداولة نصيا، فالكاتب يغرب عوالمه، ويبتكرها من خلال تجربة الانبهار الإيجابي بالآخر إلى حد نفي الذات، وكأنها محجوبة عنه تماما، أو كأنه يعيش بكافة جوارحه خارج المجموعة البشرية المشكلة للمحيط، الذي يعيش فيه، وبعيدا عن حدوده الجغرافية التي ينتمي إليها. هي كتابة مفارقة إذن، لواقعها الذي أفرزها أو أفرزته (على اعتبار أن الكتابة، أيضا، في بعض المنظورات، تسهم في خلق واقعها، على الأقل على مستوى التخييل)، تغرب ذاتها وهويتها بوساطة ما يسمّى بتخريب النّموذج، وتشييد نموذج برانيّ، على أنقاضه، يميل للّآخر الأجنبي، المختلف عن قيم الذات، والمتطور شكلا ومضمونا في نظر تلك الذات المتلفظة بالخطاب السردي. ولعل حلم الذات بالهجرة، في ذاك السياق، وضغط هذا الحلم على المخيلة والنفس، جعلا فعل الكتابة يستشرف حياة أخرى قدّر للكاتب أن يعيشها هربا من جحيم ما يجعله يعيش على هامش مجتمع ناكر له، رافض لميولاته، لا يحقق له، باعتباره مواطنا، ما يجعله يحلم بشمس أخرى، أو يعيش كرامته التي يصورها له وعيه بالعالم والقيم والجمال والإنسان.
وتهجس المتون بوازع هذا الهروب المتعدد بشكل مضمر، يمكن تجليته في بعض المعطيات التالية:
تقطيع النصوص هو عملية نفسية تعكس الوضع الاعتباري للكاتب في مجتمع لا يراهن على الثقافة والمنجز الرمزي.
حضور قضية لا جدوى الكتابة مرتبط أساسا، بوضعية الإنسان في محكه الحقوقي.
تقييد اشتراط الاعتراف بالمرأة ببعدها الجمالي، وارتهانه إلى سؤال الإثارة بدل العطاء والاستحقاق.
عكست تجربة «وشم في السعير» نفورا من الخصوصية، وبالمقابل أرست صورة سامية عن الغرب، ربما كان ذلك ارتكاسا تحت نار القهر والتهميش>
أغلب الشخصيات المستلهمة في المتون؛ هي شخصيات مخربة إنسانيا، شخصيات مهدورة، ومغموسة في وحل الوعثاء (عواهر، شواذ، منفيون، حائرون، ضائعون، بوهاليون، متسكعون، منتحرون، بوهيميون، ماسحو أحذية، زهاد، متصوفة، قساوسة، عجزة).
إن التعبير عن هذا العالم ليس دخيلا على التجربة الفردية، بل هو انعكاس صميمي لها، فالكاتب، من خلال رواته المتعددين، الذين في الغالب، لا يبتعدون عنه بمسافة شاسعة، إذ يظل قريبا منهم كأنما يسمع صدى أنفاسهم، يتماهى مع عوالم قرأها أو تواصل معها سينمائيا، حتى صارت جزءا من كيانه التخييلي. فمن خلال الشخوص التي أثث بها متونه، يجدد الوصل مع الهوامش والهوامل، ليكونا وصلا بين الواقع والمثل المحلوم بها. كما أن تمثيل العالم البراني حكائيا، جعل ذات الراوي تسافر من خلال المتراكم (بورخيس، الرشيد، المجذوب) في محاولة للقبض على الجغرافيات والأزمنة المنفلتة، فيمزج بين متخيل البادية المحلي، ليغرف من شخوصها (المغنية عائشة بنت المعاشي) في إحالة لزمن خربوشة، ومتخيل الكون عند تلميحه للحضارات البائدة (المايا والأزتيك).
لقد عكست تجربة «وشم في السعير» نفورا من الخصوصية، وبالمقابل أرست صورة سامية عن الغرب، ربما كان ذلك ارتكاسا تحت نار القهر والتهميش، وربما كانت رؤية للعالم في لحظة تحول مفصلي في حياة الكاتب، لكن الأهم، في الكتابة، هو أن النزعة العالمية لا تصنعها الماهيات المستلهمة مهما كانت صورتها المتعالية إعلاميا، ولا تمثلها التماهيات مع الآخرين مهما كانوا ملائكة أو شياطين، لكنها قراءة ترفد الواقع بدون أن ترفضه، وتخضعه لآليات التموقع الشمولي، بدون أن تنفيه أصلا أو تجتثه. وعلى العكس تماما ترسخ هذه الرؤية صورة الكاتب المتعالي، البعيد عن واقعه، الهائم في أبراجه العاجية تماما كما حدث للشاعر العربي الحداثي الذي فقد لهذا السبب جمهوره، ولئن كان من الأجدى تتبيل المسرود بنكهات كونية لإثراء أفقه بما يرسخ الهوية الكوكبـــية لإنسان القرن الواحد والعشرين، فإن ذلك لن يتأتى إلا بتمثيل المشترك الإنساني، ونزعاته الكلية التي لا تلغي الخصوصية مهما كانت سمجة ومنحطة، انبثاقا عن هناك وسيرا نحو هناك في عملية تحويرية تقتضيها سمفونية الكتابة وإيقاعاتها المرتجة.
٭ ناقد من المغرب