«الكتب المنسية» دار نشر من طراز خاصّ، وفريد أغلب الظنّ، لأنها متخصصة في إعادة نشر الكتب التي طواها النسيان بفعل تقادم زمنها، أو بفعل الإهمال لاعتبارات شتى؛ أو ــ وهذا بيت القصيد، في الواقع ــ لأنها إشكالية أو رجيمة أو طريدة غرّدت خارج السرب في عصرها أو في ميدان موضوعاتها. وليس تكرار «أو» العاطفة هنا إلا لأنّ الدار متعددة الأسباب، تتضمن التخيير والتقسيم والتنويع.
إعادة النشر تنطوي بالضرورة على تحسين الصيغة الطباعية الأصلية، أو الأولى، للكتاب؛ الأمر الذي يشتمل على بعض التحقيق، والكثير من التدقيق، وتصويب الأخطاء الطباعية، وتحسين الصور والرسوم إنْ وجدت. وفي وسع المرء أن يدرك جلل هذه المهامّ، وما يكتنفها من تعقيدات، إذا استذكر رقم الأعمال التي أنجزتها الدار حتى الساعة: 1,225,886، طبقاً لموقعها الرسمي. أمّا حقول المؤلفات فيمكن أن تبدأ من الاسطورة والأديان والماسونية والطبخ، وتمرّ بالشعر واليوغا والرقص والرياضيات، ولا تنتهي عند الخيمياء والأركيولوجيا والميكانيك الكمّي و… أشغال الإبرة!
قادني إلى الحديث عن هذه الدار أنها، مؤخراً، أعادت إصدار الترجمة الفرنسية للجزء الأوّل من أعمال الأب الدومنيكاني بارتولومي دي لاس كاساس (1484 ــ 1566)؛ والتي كانت قد صدرت سنة 1822، واحتوت على عدد من كتاباته الهامة والسجالية، السابقة على مؤلفه الأشهر «عرض وجيز لتدمير الهنود». ولعلّ نصوص لاس كاساس هي المهاد الأنضج، والأبكر على نحو ما، للنقاشات الساخنة حول ثنائيات الذات والآخر، المتمدن والهمجي، الغرب والشرق، المركز والمحيط، المستعمِر والمستعمَر، وما إليها…
غير أن برهة الأوج في المطارحات حول مسألة الآخر والآخرية قد تكون وقعت في منتصف آب (أغسطس) من العام 1550، حين شهدت جامعة فالادوليد وقائع المناظرة الشهيرة بين المشرّع خوان دي سيبولفيدا والأب لاس كاساس، حول ما إذا كان أبناء الأقوام الأصلية في «العالم الجديد»، أي «الهنود الحمر» كما سماهم الغزاة الإسبان، ينتمون إلي صنف البشر أم صنف الحيوانات؛ وما إذا كان من الممكن لأرواحهم ان تتلقي الإنجيل، وتقبل العقيدة المسيحية؛ وما إذا كانوا ــ في نهاية الأمر ــ من أبناء آدم وحواء الذين افتداهم يسوع المسيح . آنذاك، لم تنل نظرية فلسفية مقداراً من التطبيق العملي مثلما نالت عقيدة أرسطو في العبودية الطبيعية، والتي اعتبرت أنّ الطبيعة أفرزت جزءا من البشرية ليكون عبداً للجزء الآخر الذي تمنعه فضائله من ممارسة الجهد العضلي.
سيبولفيدا لم يكتف بامتداح هذه النظرية والمناداة بها، بل اعتبر أنّ الهنود الحمر كائنات علي درجة من الوحشية تستوجب شنّ الحرب ضدهم، بهدف تنصيرهم واستعباد من يأبي الدخول في الدين المسيحي. لاس كاساس عارض الفكرة بشدّة، وحقّرها، وانخرط في جهد دؤوب لفضح الممارسات الوحشية للإسبان والبرتغاليين، في كتابه الضخم «هنود أسبانيا الجديدة»، وفي كتابه الثاني الصغير «دموع الهنود». ولقد تفاعل النقاش إلي حدّ جعل الإمبراطور الشاب شارل الخامس يأمر بوقف جميع حملات الرقيق، وأحال سيبولفيدا ولاس كاساس إلى مجمع من اللاهوتيين لنقاش المسألة بحضور نفر من المشرّعين والموظفين الرسميين.
كان الأب الدومنيكاني يدرك أنّ تجربته في فضح فظائع الغزاة ضد أبناء الأقوام الأصلية تسمح له بالمضي في النقاش إلى حدّ وصف أرسطو بـ«الوثنيّ الذي يحترق الآن في الجحيم»؛ ولكنها لا تسمح له بمهاجمة النظام العبودي الذي رخّصه القديس أوغسطين نفسه، واعتبره باعثاً على فضائل التواضع والتسامح والطاعة والصبر. وأمّا سيبولفيدا فقد كان العالمِ البارز الذي وفّر للتاج الإسباني الأرضية الفكرية اللازمة لتسويغ أعمال الغزاة، والباحث الأبرز في إيطاليا وإسبانيا على حدّ سواء، والفيلسوف الرهيب الذي يتمتع بذهن حاد واطلاع واسع وحجة قوية. ولقد دامت النقاشات حتي العام 1551، ولم تجد اللجنة المحكّمة الشجاعة الكافية لاعتماد أي من الرأيين، إذْ كانت التفاعلات الخارجية تتجاوز ما تستطيع الكنيسة القيام به، وكان الجوهر يدور حول الذهب والثروة والسلطة، ويدشّن فلسفات التوسع والاستعمار والإمبريالية.
جدير بالإشارة أنّ إدراج أعمال لاس كاساس في سلاسل «الكتب المنسية» لا يعني أنها رجيمة أو طريدة أو منسية، فالعكس قد يكون الصحيح؛ الأمر الذي يعيد التأكيد، في المقابل، على أنها تظلّ إشكالية بصفة عامة، وربما في هذه الترجمة الفرنسية على وجه التحديد. كانت أزمنة مطالع القرن التاسع عشر حافلة بالسجالات، والسجالات المضادة، حول مفهوم الآخر والاستعمار والكشوفات وحروب الإخضاع، ثمّ «المهمة التمدينية» التي خالت المراكز الأوروبية الكبرى أنها تدخل في صميم ما يقع على عاتقها من «واجب» تجاه «الشعوب البدائية». إلى هذا كلّه، فإنّ أعمال لاس كاساس اكتسبت على الدوام وجهة خلافية تتصل، أيضاً، بمسألة التبشير القسري والتنصير عن طريق الغزو؛ وهذا ما درسه، بعمق وإحاطة واسعة، الفرنسي أندريه سان ــ لو، الذي درّس تاريخ الفتوحات الإنجيلية في كتابه الرائد «لا فيرا باث: الروح الإنجيلية والاستعمار».
وليس من التعسف الافتراض بأنّ سجال لاس كاساس ضدّ سيبولفيدا مقيم مستدام، تواصل بأشكال مختلفة على مرّ الأحقاب؛ ويتواصل في عصرنا أيضاً، وربما تحديداً!