الكلمة، ترفع من شأن قائلها أو تبخسه؛ وقد تكون بذرة لصلاح المجتمع أو فساده؛ وقد تفضي أيضا لاندلاع الحروب بين الأمم أو إخمادها. الكلمة هي حسن البيان أو فاسد الأعمال، ومنذ القِدَم وصولا لعصرنا لا يوجد أقوى من وقع كلمات ابن المقفع ونيكولو ميكيافيلي على البشرية. وعلى الرغم من أن روحيهما، صعدت لبارئها منذ قرون طويلة، لكن لم يستطع الزمان أن يطوي صفحتيهما.
نيكولو ميكيافيللي (1469-1527) هو رجل سياسة من الطراز الأول. وتغلب اشتغاله بالعمل الدبلوماسي على كونه كاتبا وفيلسوفا ومؤرخا. ومع توالي العصور، وارَى التاريخ صفحاته، ولم يتبق منه إلا كتابه «الأمير» (The Prince) الذي ظهر في شكل كتيِّب أو ورقة بحثية قصيرة عام 1513 ليهديها لحاكم البلاد الذي استبعده عن العمل السياسي ونفاه إلى قرية صغيرة؛ على أمل أن يستعيد منصبه مرة أخرى. وهذا الكتاب الذي يفتقر لخصائص البحث العلمي الفعلي، والمكتوب في إطار إعلامي توعوي، أثار الجدل منذ لحظة نشره في القرن السادس عشر؛ لكونه وثيقة دامغة لإعداد الحاكم الطاغية، الذي يفطن لكيفية السيطرة على شعبه بكل الوسائل. وعلى الرغم من اشتمال الكتاب على بعض المبادئ والمفاهيم السياسية الناضجة، لكنها جميعا تُزَيِّن للحاكم شهوة الديكتاتورية. ويعد هذا الكتاب إلى الآن وثيقة بحثية مهمة، لدراسة علم السياسة في عصر النهضة، وهو أيضا خالد الأثر وينهل منه من أراد الطغيان، ومن شاء دمار وخراب البشرية وقهر الضعفاء.
ومن ناحية أخرى، كان العلَّامَة النابغة ورائد نهضة النثر في الأدب العربي، الذي يستقي من علومه وأسلوبه العالم أجمع حتى وقتنا الحالي ـ الأديب والمفكِّر الذي لا مثيل لعلمه «ابن المقفَّع» (106-142 هـ) (724-760 م). وعبد الله ابن المقفَّع فارسيّ الأصل مجوسي الدين، نشأ في أواخر الدولة الأموية، حيث عاش في ظلَّها نحو 25 عاما، وعاصر بداية الدولة العباسية، وظل في كنفها باقي سنوات عمره التي توقفت عند سن 36 عاما فقط. وقد لد في قرية «جور» الفارسية التي تعرف حاليا باسم «فيروز أباد». ولكونه محبّا للآداب، أتقن في فارس الثقافة الفارسية، وبرع في تعلُّم لغتها القديمة «الفهلوية». وبما أن أباه أحد عمال الخراج ومن كُتّاب الدواوين، كان من أثرى روح ولده بإتقان العلوم والثقافة الفارسية، بل ساعده على النزوح للبصرة عاصمة الخلافة الأموية آنذاك، التي كانت عندئذِ موئِلا للعلوم والآداب، ومقصد العلماء من كل حدب وصوب، وتنتشر فيها الحلقات العلمية في كل مكان، فضلا عن وجود سوق «المربد» الذي كان مقصد أهل العلم والأدب. ومن ثمَّ، أتقن ابن المقفع اللغة العربية، وتشرَّب بآدابها، وأحاط بتلابيب أساليبها وقواعدها، فمزج في أدبه بين الثقافة الفارسية والعربية، ومكَّنه ذلك من إدخال عناصر وأسس التجديد على الأدب العربي وأسلوب النثر.
لقد كان ابن المقفع مسلما قويما، تقيّا وشديد التَّديُّن، يشتهر بالأخلاق الحميدة، لكنه لقي مصيرا مؤلما وهو في ريعان الشباب. أما ميكيافيللي الذي اشتهر بقيامه بجميع الألعاب السياسية ومنها الجاسوسية ومداهنة الحكَّام، كان أعظم التكريم من نصيبه.
ويذكر أنه كان ألمعيا لدرجة أنه كان يتقن أيضا اللغتين اليونانية والهندية، وترجم منهما العديد من أمهات الكتب التي عندما ضاعت أصولها بلغاتها الأصلية، عكف المحدثون والباحثون على إعادة ترجمة ما تركه ابن المقفع من تراث لهم إلى لغتهم الأم، بل لغات العالم المختلفة. ولابن المقفَّع منزلة كبرى لدى الباحثين الأجانب، الذين ينقلون ما تركه من مؤلَّفات وتراجم. وقد بلغ به حد إتقان اللغات أنه كان يترجم النصوص من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية بسلاسة تجعل ما يترجمه كما لو كان أصلا مكتوبا باللغة العربية، خاصة أنه كان ينقل التراكيب والصور البلاغية من لغاتها الأصلية إلى ما يضاهيها من تراكيب وصور عربية أصيلة. ولذلك، يجب اعتباره ليس فقط أحد أعلام المترجمين، بل أحد مؤسسي علم الترجمة في العصر الحديث.
ولكون الفرس في عصره ومن يماثلهم من الموالي كانوا أصحاب العلم في الدول العربية، فلم يكن من الصعب عليه التقرُّب لدائرة الحكام، حتى وصل لبلاط الخليفة نفسه، وصار مقرَّبا له، وهناك تحوَّل إلى الإسلام. وقدَّم ابن المقفع للبشرية تحفة أدبية في شكل «كتاب الأدب الصغير» و»كتاب الأدب الكبير»- ويقصد هنا بالأدب المعنى اللغوي للكلمة؛ فيتحدث في الكتابين عن أفضل السلوك والآداب، التي يجب أن يتَّبعها المرء. ويشتمل الكتاب أيضا على حِكَم وعِظات نقلها من مختلف الشعوب التي تشرَّب آدابها.
ويعد «كتاب الأدب الكبير» درَّة نادرة تقع في قسمين: الأول يختص بعلاقة الراعي بالرَّعيَّة، والآخر عن علاقة الرَّعية ببعضها بعضا. فتحدث عن الصداقة وآداب المجالسة والتعامل مع السلطان. وقدَّم فيهما العديد من الوصايا النفسية التي تنأى بالإنسان عن الطيش واتباع الأهواء، وتحض على الوفاء وحسن الخلق. فظهر هذا الكتاب بأسلوبه الناضج، كأول كتاب تنمية بشرية وتقويم السلوك في التاريخ الإنساني أكمله. ولم يطمح ابن المقفَّع من كتابه جاها أو سلطانا؛ لأن سعيه هو حثّ الجميع على التحلِّى بالخُلُق والسلوك القويم، لكن نزعته المثالية المفرطة جعلته يجترئ على ذكر ما يجب أن يكون عليه السلطان القويم في حكمه وسياسته وأخلاقه وحسن سيرته، فغرست كلماته الحقد عليه في قلوب الحكَّام بدلا من الاحتفاء به؛ فالدولة العبَّاسية التي هي آية في الازدهار كان فساد الحكَّام فيها ضارب للأعماق.
فحقد عليه مُتَولِّي البصرة سفيان بن معاوية بن يزيد بن المهلَّب؛ لسخرية ابن المقفع من أنفه الكبير (وإن كان مازحا)؛ ومن كون ابن المقفع لا يحيد عن الصواب فيظهر بذلك جهل سفيان بن معاوية. وأخيرا، حينما حاول أن يرميه معاوية بتهمة أخلاقية ثأر ابن المقفع لنفسه وسبه غير آبه بمكانته. فما كان من معاوية إلا أن قتله بمباركة من الخليفة أبي جعفر المنصور؛ حيث وجد الأخير أن كلمات ابن المقفَّع الصادقة سوف تضعف من منزلته. فاتهم ابن المقفَّع ظلما بالزندقة، وقُطّعت أطرافه وأعضاؤه وهو حي، وأحرقت أمامه في موقد إلى أن لفظ أنفاسه من شدة التعذيب. وعند سَكْرَة الموت صرَّح له معاوية بأنه قتله لسبّه إياه.
وعلى النقيض، تم تكريم نيكولو ميكيافيللي حيّا على إخلاصه ووفائه، ودُفِن في كنيسة سانتا كروش الشهيرة، بل نقش على قبره عبارة: «يجثم هنا عظيم لا توافيه حقه جميع عبارات التكريم».
لقد كان ابن المقفع مسلما قويما، تقيّا وشديد التَّديُّن، يشتهر بالأخلاق الحميدة، لكنه لقي مصيرا مؤلما وهو في ريعان الشباب. أما ميكيافيللي الذي اشتهر بقيامه بجميع الألعاب السياسية ومنها الجاسوسية ومداهنة الحكَّام، كان أعظم التكريم من نصيبه.
كاتبة مصرية
{ بل ساعده على النزوح للبصرة عاصمة الخلافة الأموية آنذاك }.البصرة ياسيدة نعيمة لم تكُ يومًا عاصمة للخلافة الأمويّة ولا للخلافة للعباسيّة.البصرة أوّل مدينة بُنيت في الإسلام على عهد الخليفة عمر ابن الخطاب من قبل القائد
عتبة ابن غزوان بين عامي 14 /15 هجريّة.لتكون قاعدة عسكريّة للفتوح ترتبط مع مقر الخلافة في الحجاز.نشأت فيها مدرسة للغة العربيّة سمّيت بمدرسة البصرة ؛ مقابل مدرسة الكوفة.وسمّي الخليج باسمها : خليج البصرة.وفي العهد
العثمانيّ أصبحت ثالث ولاية مع ولايتي : الموصل وبغداد.تحياتي لقلمك المواظب.