الكذبة

حجم الخط
4

مات السير وليمز جونز في عز شبابه، وقد فاق في عبقريته، عبقرية والده الأستاذ البارز في علم الرياضيات. عبقرية السير وليمز أدهشت من حوله بقدرته العجيبة لتعلم اللغات، فقد أتقن العربية والعبرية واللاتينية واليونانية ولغات أخرى منها، الصينية بكل صعوبتها، ويقال في هذا الشأن أنه أتقن ثلاث عشرة لغة، نطقا وكتابة، وأتقن ثماني وعشرون لغة نطقا، وقد صنف «إيبربوليغلوت» أي متعدد اللغات بإفراط، هذا الرجل الذي جاب الشرق وتشبع بثقافته، وأحب الهند التي عاش فيها ومات ودفن فيها، لا تهمنا حياته القصيرة والثرية ربما، بقدر ما تهمنا تركته الأدبية والثقافية، خاصة تلك الأبحاث المتعلقة بالشرق، وهذا مفصل حكايتنا اليوم، تحديدا ما يتعلّق برؤيته الثاقبة لمستقبل تلك الأمم، التي نحن جزء لا يتجزّأ منها.
لقد قال السير وليمز في ما معناه إن كنت تريد أن تعرف مستقبل أمّة فاطلب من الطفل أن يخبرك بصدق في ما يفكر، ففكرة الطفل تكشف عن رسالته التي ولد بها في هذه الحياة، أمّا تحقيقها فيتطلب جهدا يقوم به الناضجون للاستتثمار فيه.. طبعا قلّما يصغي الكبار لأطفالهم، مع أن ذلك فرصة جيدة لتصحيح أخطاء الماضي، وتفادي تكرارها.
هل تبدو الفكرة غبية أو صعبة التحقيق؟
خريج هارفرد، الأسود ذو الأصول الإفريقية، اقتنع منذ طفولته أنه قادر على تحقيق حلمه، ولا ندري هل كان حلمه أن يكون رئيس أقوى بلد في العالم، أو أن ينجح في كل مراحل حياته بدون توقف حتى يبلغ درجة التخمة، التي عاشها بحذافيرها حين أعتلى عرش أمريكا!
الطفل العربي الذي يقمعه أهله بأمنياتهم، يحلم دوما أن يكون طبيبا، أو مهندسا، وإن أخطأ وعبّر عن حلم مختلف كأن يكون رجل مطافئ مثلا، فإنّه سيثير حفيظة أهله ويغضبهم، الذين يسارعون إلى تصحيح مسار أحلامه مخافة أن يضيع مستقبله.

الكذبة تنجب كذبة أخرى، كما يقول المثل الإنكليزي، ولأن حبل الكذب قصير كما نقول نحن، والذاكرة خائنة، ولا تتسع لشساعة الكذبة وامتدادها، كما قال إبراهام لنكولن.

ومن هنا بالضبط تبدأ عثرة أجيالنا بتعاقب مؤلم، حين يتيه الطفل عن طريقه، فيمشي مغمض العينين في طريق لا يعرفها، متمسكا بذيل أبيه أو أمه، ثم فجأة ينتهي به المطاف ضائعا في بقعة يجهلها تماما، ولم يبرمج لأجلها، تلك العثرة تعيشها أجيال بأكملها في عالمنا العربي، لهذا لا الطبيب طبيبا بالفعل، ولا المهندس مهندسا كما يجب، ولا المعلّم معلما، ولا الطباخ طباخا… ولا حتى المفكر مفكرا. يكذب الطفل في التعبير عن أول أمنية له، لأنه حرم حتى من أن يحلم، وقد يعنّف لصدقه، فيتعلّم أصول الكذب وقوانينه، حتى يبرع فيه، ويصبح محترفا، فهل نلوم من يكذب علينا اليوم من خلال منابر ثقافية وأدبية وإعلامية وغيرها؟ لا عتب على من تعلّم أول كذبة في حياته لإرضاء الآخر «الناضج»، فالكذبة مثل النبتة الطفيلية، ما أن تنبت قرب شجرة، حتى تلتف حولها وتمص جذورها وأغصانها، وتقتلها ببطء وهي لا تزال واقفة في مكانها.
الكذبة تنجب كذبة أخرى، كما يقول المثل الإنكليزي، ولأن حبل الكذب قصير كما نقول نحن، والذاكرة خائنة، ولا تتسع لشساعة الكذبة وامتدادها، كما قال إبراهام لنكولن، فها نحن نعيش النتائج على الواقع، ونمر بمرحلة عصيبة من تاريخنا، مرحلة انكسار المجتمع العربي، ووهم الأنظمة العظيمة، والأبطال الورقيين الذين صنعهم جيل بأكمله غُزل بخيطان الكذب. الكذب في الحقيقة نوع آخر من الثقافة، يمكن ترسيخها بسهولة، كونها لا تحتاج لقواعد متينة لتقف عليها، ويمكننا معاودة قراءة رواية «الشطار» لمحمد شكري لفهم المغزى الذي أرمي إليه، وقد لا تكفي لاختزال محنتنا، ما دامت قناعاتنا اليوم لا تزال منبثقة من الكذب، فهشاشة الكذب لا تصنع مجتمعا متحضرا، كون أسسه تقوم على المعلومة الصادقة، بدءا بالحساب الذي نغش فيه نحن، إلى العلوم البيولوجية التي لا نؤمن بها بقدر ما نؤمن بالفتوى التي تحرم وتحلّل ما لا يمكن الحكم فيه سوى بالعلم.
تصبح حكمة السير وليمز كل ما يلزمنا لنفض الذات من غبار عالق بنا منذ نعومة أظفارنا، ومحاولة الإصغاء للطفل المنكمش في داخلنا، المنكفئ على أحلام قديمة، فهناك بقي هذا الفرد العربي قابعا، بجسد رجل وعقل طفل معاقب، وجهه مثل «حنظلة»، موجه صوب الحائط منذ تلك الأيام. الكذب في الأدب العربي، لا مجال لإحصائه، نشمه مثلما نشم أكاذيب السياسة، لهذا أيضا لم يقتنع به هذا الفرد المنهزم أمام سطوة الظلم عليه، ولعلّ أكبر كذبة نشرها أغلب الكتّاب العرب، هي هذه الانهزامية المقيتة، وتمجيد الخيبة بكل أنواعها، والطعن بكل إصرار في الحب، والإخلاص، والقيم الجميلة، لم أقرأ لكاتب عربي إلى عمري هذا ما ينير بصيرتي فعلا بخطاب مختلف، وكأنه عاجز عن إيجاد الأهداف التي تستحق، أو أن يهمس لقارئه فقط بجملة سحرية كالتي رددها أوباما «يس وي كان» التي تلقفها الفنانون والأدباء والموسيقيون وحولوها إلى ملحمة شعبية، هزّت القلوب الميتة.
لماذا لا نستطيع نحن؟ لماذا كل النهايات لدينا تترنّح في ساحات وغى يتباكى فيها الخاسرون من الجانبين، لا منتصر في أدبنا، لا بطل لا في القصص ولا في الشعر، وأقصد هنا «البطل المتخيّل»، الحالم، المنتصر، المنافي لقواعد تكريس المأساة، المنبعث من جمرة طفولية مختبئة في حضن حلم لم تشوهه متغيرات الحياة، لماذا تموت أحلامنا بسهولة؟ يعرف قاتل الأحلام جيّدا، أنه يغتال صاحبها ويتركه جثة تتنفس بدون روح، ولهذا يتسلل إليه في عمر البراءة، وهو غض، طريّ، حيث يسهل استبدال روحه بأخرى ميتة، بدون عناء يذكر، ما دام ينهي مهمّته بكذبة.
صعب بعدها إيجاد تلك الجذوة المختبئة تحت ركام عمر بأكمله، مع أن المعادلة سهلة، فبين الحقيقة والكذبة خيط رفيع، أن تدرّب الشخص على اكتشافه فيمكنه تخطيه، ولعلّه ذاك الاكتشاف الذي اعتمد عليه لامارتين في حياته، ولخّصه في جملتين: «لا شيء حقيقي تماما، ولا شيء زائف. كل شيء هو الحلم والكذب، وهم القلب الذي يأمل في أن يطيل أمده».
وإن كنت أميل لتصديق هذا المعنى الحذر الذي تعنيه هذه العبارة الضبابية، فإنني أيضا أميل إلى الوضوح، لقد كرهت الأشياء المواربة، تلك التي تضع قدما في الداخل وأخرى في الخارج، أو تلك التي تضعنا أمام لونٍ لا لون له، وهنا سأقيس على حياتي، حين رغبت بقوة أن أعتلي المسرح وألقي شعرا، وقد كنت يومها طفلة داكنة السمرة، بملامح عادية، لا يمكن تمييزها عن عشرات البنات، شيء واحد كان يميزني آنذاك، هو الأضواء المشعة في مخيلتي وهي تضيء حلمي الصغير، وعينا أمي التي رأت باكرا تلك الأضواء وظلّت ترعاها.

٭ شاعرة وكاتبة من البحرين

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول نضال زغب:

    مقال متقن ومصاغ جيدا ويناقش موضوع غاية في الأهمية حيث أصبح الكذب الداء العضال الذي يهدد بتدمير كامل حضارة الإنسان وقيمه وانسانيته وتحويله إلى مجتمع متوحش كاذب ومنافق وسيستمر في الانحطاط به ليوصله إلى مستنقع الاعودة حيث لا قيم ولا اخلاق .

  2. يقول سلام عادل(المانيا):

    هل مصيبة ما ورثناه من قيم وعادات تقاليد بالية فهناك مهن نحتقرها رغم انها مهن شريفة كعامل النظافة وعمال المطاعم والفنادق
    لانها خدمية وبنفس الوقت نكذب ونقول العمل شرف واننا نقضي او قاات كثثيرة نستمع للغناء والموسيقى ونشاهد الرقص وبنفس الوقت لو اراد ابناءنا ان يمارسوا الغناء والرقص سنقيم الدنيا ولا نقعدها,والمصيبة الاكبر ان الاهل يعلمون ان الوظيفة الحكومية حتى للمهندس(عدا دول الخليج) كراتب لا يعادل ربع ما يحصل عليه اي ميكانيكي سيارات

  3. يقول بولنوار قويدر-الجزائر-:

    السلام عليكم
    تحية طيبة مباركة
    إنّ متن وشكل المضوع يستدعي أن يكون له السبق في كثرة عدد القراءة والتعليق والمشاركة نظرا لأهميته الإجتماعية والثقافية وما أحوجنا إلى هكذا مواضيع وبخاصة في هذة الفترة فترة التردي الثقافي وفقر النصوص الدسمة التي تحتوي على سعرات ثقافية كبيرة لأنذنا في حاجة لها …قد نكذب على أنفسنا أنّنا نطالع ولكن في الحقيقة نحن نمسح النصوص بأعيننا حيث لا قراءة القراءة ومطالعة إستثمارية ..يجب علينا أن نرسكل كياننا وأفكارنا بتشبيعها قراءة ومطالعة وبحث حتى نورّث لما بعدنا ثقافة القراءة وكشف الغبار عن الحقائق ولو كانت مرة لأنّ ما تريده ليس فرضا على غيرك فله الحق في تحقيق أحلامه ولو كانت بسيطة مبتذله فهو أدري بما يليق به..إنّ أطفالنا خلقوا لزمن غير زمننا
    ولله في خلقه شؤون
    وسبحان الله

  4. يقول بولنوار قويدر-الجزائر-:

    السلام عليكم
    تحية طيبة مباركة
    إنّ متن وشكل الموضوع يستدعي أن يكون له السبق في كثرة عدد القراءة والتعليق والمشاركة نظرا لأهميته الإجتماعية والثقافية وما أحوجنا إلى هكذا مواضيع وبخاصة في هذة الفترة فترة التردي الثقافي وفقر النصوص الدسمة التي تحتوي على سعرات ثقافية كبيرة لأنذنا في حاجة لها …قد نكذب على أنفسنا أنّنا نطالع ولكن في الحقيقة نحن نمسح النصوص بأعيننا حيث لا قراءة القراءة ولامطالعة إستثمارية ..يجب علينا أن نرسكل كياننا وأفكارنا بتشبيعها قراءة ومطالعة وبحث حتى نورّث لما بعدنا ثقافة القراءة وكشف الغبار عن الحقائق ولو كانت مرة لأنّ ما تريده ليس فرضا على غيرك فله الحق في تحقيق أحلامه ولو كانت بسيطة مبتذله فهو أدري بما يليق به..إنّ أطفالنا خلقوا لزمن غير زمننا
    ولله في خلقه شؤون
    وسبحان الله

إشترك في قائمتنا البريدية