مرة أخرى تتجاوز كرة القدم حدود اللعبة ونتأكد مع الوقت أنها أكبر بكثير من مجرد رياضة في تداعياتها وتأثيرها على الأفراد والمجتمعات بغض النظر عن الجانب المادي الذي جعل منها واحدة من النشاطات الاقتصادية والتجارية التي تدر مليارات الدولارات على اللاعبين والأندية والشركات الراعية والهيئات الرياضية، وواحدة من الرياضات التي ترفع وتحبط المعنويات، وتساهم في تعزيز مشاعر الانتماء واستقرار المجتمعات أو زيادة الاحتقان في أوساط مواطنيها على غرار ما حدث بمناسبة نهائيات كأس أمم أسيا وكأس أمم أفريقيا وقبلهما بطولات عديدة، دفعت عديد الدول الى الاستثمار في بناء المنشآت وتنظيم الأحداث الرياضية، واستقطاب النجوم لتطوير الكرة بالموازاة مع الاهتمام بالمواهب المحلية التي ترفع راية الأندية والمنتخبات في المحافل الدولية.
قطر كانت وما زالت خير مثال على ذلك عندما استثمرت في بناء المرافق الرياضية قبل عشرين عاما، وتنظيم الأحداث الرياضية والبطولات العالمية الكبرى في كل الرياضات، إلى أن فازت بتنظيم كأس العالم 2022 على حساب الولايات المتحدة، فتحولت الى قبلة العالم في ظرف سنوات، تمكنت خلالها من تشييد بنية تحتية وبناء منشآت رياضية وسياحية وثقافية استقطبت أنظار العالم، وحققت معها لقبين آسيويين متتاليين رغم عدد سكانها القليل ومساحتها الصغيرة والظروف الصعبة التي مرت بها في زمن حصار الجيران، والذي كان دافعا ومحفزا أكثر منه معطلا لعجلة لم تتوقف عن الدوران، جعلت من الدوحة عاصمة الرياضة العالمية يحج إليها الرياضيون والفرق والمنتخبات، والزوار والسياح بانتظام.
المملكة العربية السعودية من جهتها سارت على نفس الدرب قبل سنوات، وراحت بدورها تستثمر في نجوم الكرة العالمية التي استقطبها دوري روشن، واستقطب معها الأنظار التي سمحت لها الفوز بتنظيم كأس العالم 2034، والتي ستكون فرصة ومناسبة لتشييد المرافق الرياضية والسياحية واعادة تأهيل البنى التحتية والتعامل مع مختلف التحديات التي يفرضها تنظيم كأس العالم في بلد شاسع يقارب عدد سكانه أربعين مليون نسمة يعشقون الكرة، ويتسايرون مع التحولات التي يشهدها المجتمع في المجالات الرياضية والثقافية من خلال المهرجانات التي تحتضنها المملكة بانتظام، والتي رافقتها تسهيلات معتبرة للزوار والسياح، تجعل البلد يعيش على وقع التحضير لاحتضان كأس العالم.
ما حدث في كوت ديفوار بمناسبة تنظيمها وفوزها بكأس أمم إفريقيا بالسيناريو الدرامي الذي حدث، أكد مجددا أن الكرة لم تعد مجرد لعبة بل احدى وسائل التعبير عن الذات ورفع التحديات من خلال تحويل نكسة الخروج من الدور الأول الى انتصار عظيم، ساهم في نشر الفرحة في الأوساط الجماهيرية، بعد أن قلب اللاعبون الهزيمة الى انتصار يتحدث عنه العالم كله، وتتخذه بلدان أفريقية أخرى مثالا يقتدى به، يدفع البلدان الافريقية الى التنافس على تنظيم الحدث القاري الكبير الذي لم يعد غاية، بل وسيلة للاستقطاب وتطوير البنية التحتية، وتحقيق الانجازات الرياضية التي تعزز مشاعر الانتماء إلى الوطن والاعتزاز والافتخار بانجازاته حتى ولو كانت رياضية.
أما الاخفاقات المتكررة للمنتخب الجزائري لكرة القدم، فقد رسخت مشاعر الاحباط والتذمر في الأوساط الاعلامية والجماهيرية بشكل ملحوظ، يؤكد بما لا يدع أي مجال للشك، أن الكرة لم تعد مجرد لعبة، ولم يعد الفوز فيها غاية رياضية، بل تعداه ليتحول الى قوة ناعمة تستعملها الحكومات والدول لفرض نفسها كقوة مؤثرة وملهمة تثير الإعجاب وتستقطب من خلالها رؤوس الأموال والاستثمارات لتحقيق التنمية المستدامة التي حققتها قطر وتسعى إليها المملكة السعودية ودول أخرى نامية في آسيا وأفريقيا بالخصوص.
إعلامي جزائري