أقف أمام مكتبتي الزاخرة بكتب أعدتُ قراءتها مرات ومرات، أعطي ظهري لتلفزيون أصبح وجوده كالعبء في منزل السوريين، إذ لا فائدة ولا فرجة، سحبتُ كتابا من مكتبتي، وعدت لأتربع مع عائلتي الصغيرة أمام شاشة الموبايل الصغيرة لنرى ما رأت الشعوب قبلنا بأيام، أو لنقل رأتنا قبل أن نرى أنفسنا.
تضج وسائل التواصل الاجتماعي بشتى الأحاديث وتكيل المديح والهجاء لهذا العمل الدرامي أو لذاك، لا متسع لي في هذا العالم، لكن ثمة متسع على أوراقي هذه. فتحت كتاب «بلدي» لرسول حمزاتوف وطالعتني هذه الجملة: «سمعت في بلادي القاسية أنّ الكلمة هي التي خلقت العالم لنا نحن بني البشر الخطاة». فالكلمة المنطوقة بأيّ لسان وأيّ لهجة ستكون، إما لعنةً، أو دعاءً، أو ألما، أو قذارةً، أو غزلا بحبيبة أو بزهرة، وربما كانت نفاقا وأغلب الظن أنّها الحقيقة بعينها، لكنها في النهاية نور وظلام.
وما استدعاني للكتابة والمتابعة الدرامية هو موضوع اللهجة في عدة أعمال درامية سورية تعرض هذا العام، ومنها مسلسل «الزند ذئب العاصي» لن أتحدث عن القصة والممثلين والتصوير البارع والملابس الساحرة، بل عن جانب أثار حفيظة البعض، وضغينة البعض، وسخرية الآخرين، وتعاطف الكثيرين، وغيرها. لكن نحن سوريون وبقدر تنوعنا تتنوع آراءنا، التي لا نكتفي بقولها، بل نريد فرضها بأي حدّ نراه أمامنا. لكن ما استوقفني سؤال واحد أعيد صياغته هنا: «أيّ لسان يتكلمون وعم يتحدثون وأيّ أغانٍ يغنون؟». يقولون بأن لهجتي فقيرة.. نعم هي كذلك.. فأنا أخشى دوما عليها من الرجم، لهجتي سُمعت على المنابر وأيّ منابر؟! لذا بتُ أخشى على نفسي منها. فرحت أغير وأبدّل وأميل وأدغم وأطيل وأقلب.. أن اقبلوني، فأنا من هناك.. أقصد من «هون!» لكن حالي صار كحال الجدي الذي ذهب إلى الغابة لينمو له ذنب ذئب فعاد حتّى بدو قرنين.
يقول أنطون سعادة: «كلّ مجتمع يحبّ أن تكون له وسيلة أو وسائل، لغة أو لغات، لهجة أو لهجات يتخاطب بها أفراده ويتفاهمون، ويتفاعل تفكيرهم وتزداد ثقافتهم». وعليه يُقسّم خبراء اللغة اللهجات السورية إلى أربعة أقسام تبعا للمناطق في شمال سوريا وما حولها، والمنطقة الوسطى، والساحل، والمناطق الشرقية. لا أريد الغوص هنا فلا متسع على الرغم من أهمية اللهجات وتكونها. اللهجة ما هي إلا صورة مسروقة ومشوهة عن اللغة التي تعتبر لغة رسمية لأي بلد. لكنّ اللهجة متفرعة عن اللغة المشتركة، ومتأثرة بها، وإن كانت تشويها وتحريفا لها. وفي مسلسل «الزند» الذي يُعرض لأول مرة باللهجة الساحلية السورية، تبرز نزعتان سيطرتا على ردود الأفعال تجاه اللهجة:
نزعة تميل إلى إعلاء شأن اللهجة البيضاء وهي لهجة أهل الحضر وأهل دمشق، على الرغم من أنّ كلماتها في غالبيتها سريانية أو دخيلة أجنبية.
نزعة تتداخل فيها العواطف الدينية والمشاعر العصبية الفجة، التي تودّ بقفزة وهمية أن تردّ على أحاسيس المذلة التي تشعر بها والتي تتجرعها في مناسبات كثيرة، وأن تعيد الألق البري البريء للهجة قديمة. وبين هاتين النزعتين ضاع الكثيرون وفقدوا لهجتهم، أو خجلوا منها، لكنها لهجة الجدّات والحكايات وسنابل القمح، ورائحة الخبز.
تتأثر كل لهجة بأحوال ناطقيها وواقعهم، فنشوء اللهجة وشيوعها، ما هو إلا مظهر من مظاهر الميل إلى الخفة واليسر. تتدرج اللهجات من الصعب إلى السهل ومن الخشن إلى الناعم ومن المعقد إلى اليسير ومن الريف والصحراء إلى المدينة. فاللهجة تؤدى بأصوات مسها التطور برغبة من المجموعة المتكلمة في الميل إلى السهولة، لكن ما يحكم تنوع اللهجات هو طبقات الناس وفئاتهم، فهناك لهجة للطبقة الارستقراطية، ولهجة العمال ولهجة الفلاحين ولهجة البسطاء ولهجة الأميين. وهكذا نرى أن اللهجة نشأت حسبما يوجد بين الناس من فروق في الثقافة ومناحي التفكير والوجدان، ومستوى المعيشة، حياة الأسرة، والتقاليد والعادات والمهن التي يزاولها المتكلمون، وغالبا ما تترك المهنة أثرها في لهجة ناطقيها ومفرداتهم. يمكن لنا أن نرى صراع اللهجات في المدن الكبيرة كدمشق مثلا، حيث يشتد النزاع بين الطبقات. وإن لم نقل صراعا بين الطبقات، سنقول صراع الريف والمدينة، لن أُجمّل الموضوع، لكن هناك من لجأوا إلى اللهجة البيضاء، لأنهم ينفرون من صفات لهجاتهم، وحتى لا تنفر منهم النفوس وتحتقن وتستعر الضغائن والتخيلات والاتهامات، بدأوا بالتلوين والزخرفة. لكن اللهجة لا تُرتجل ارتجالا ولا تخلق خلقا، بل تتكون بالتدريج من تلقاء نفسها بعكس اللغة التي نكتسبها تعليما في المدارس والجامعات. وأيّ لهجة محلية يعود ظهورها إلى اختلاف الإقليم الذي ظهرت فيه، وما أحاط بها من ظروف، لكنّ حدودها ضبابية، هشة، وهذه الهشاشة لا تزيد من قيمتها النفسية، بل تزيد قيمتها في وجدان ناطقيها، والأخطر أن تثير الشفقة إن لم يكن السخرية. فأهل الساحل والريف عموما تركت البيئة أثرا قويا في نطقهم، فانعزالهم وانطواؤهم على أنفسهم ورفضهم لكل ما هو أجنبي، لم يسمح بأيّ تطعيم لهذه اللهجات بشكل طبيعي، وهي بذلك تحقق للناطق هدفه من الكلام، وقد تضفي صفات من الخشونة والذكورة القوية، التي قد تفسر بالعدوانية. فالريف يميل إلى الأصوات الشديدة في النطق، وهذا أمر طبيعي ينسجم مع أهل الريف وعملهم، الذي يتسم بالغلظة والخشونة، فالأصوات سريعة النطق وفيها جهار حاسم، وفيها من العناصر الانفجارية التي تنسجم مع الأداء والعمل وحركات العمل. في الريف يفنى الصوت في المساحات الشاسعة لهذا تعلو الأصوات وتجهر، فالأصوات الجهورة أوضح للسمع، تتلقاها الأذن من مسافة وتختفي في طياتها نظائرها المهموسة. وهنا نرى متسعا للعتابا الساحلية، التي سحرت الجيل القديم لأنّه سمعها في أيامها النبيلة قبل أن يُدفع بها لفجاجة جنونية.
أما أهل المدن فلا يميلون إلى جهر الأصوات، بل إلى همسها، وللأصوات شديدة الرخاوة، ففيها تؤدة وليونة تنسجم مع البيئة. ففي المدن والبيوت متقاربة، يتحدث سكانها همسا، فالجدران متلاصقة ولها آذان، ولا داعي للصوت العالي، فتميل الأصوات إلى الهمس الرقيق. فنرى الترقيق واستبدال حرف بحرف لتبتعد عن الخشونة، بل تقترب من الدلال والغنج. وتنوعت وأصبحت سريعة وتعداد كلماتها مهول، نتيجة النشاط الاجتماعي والتجاري والسياسي المحموم في المدن. وحتّى أطفال الحضر يتعلمون تهذيب وتجويد نطقهم وتخير ألفاظهم، فالأهل يكثرون من الحديث مع الطفل، ويستمعون لكل ما ينطق به، ويصححون ما يزل وما ينحرف، ويقبلون العناصر الأجنبية الدخيلة التي تجيز الاستعارة. بعكس طفل الريف الذي يخطئ اللفظ، لكن ما من أحد يصحح له فيشب على الخطأ وبعدها يصبح ما أخطأ به منطوقا جديدا.
بين الشدة والرخاوة فهمنا معاني الأشياء، لكن المعاني لم تبق على حال واحدة، بل هي دائمة التغير. لم تجد اللهجة رقيبا ولا حسيبا، لذلك انسابت خفية عن الأنظار والأسماع، وتغيرت في أفواه ناطقيها، دون أن يلفت هذا نظر أحد. ولم تكتب اللهجة لأن في الكتابة عوامل ثباتها واستقرارها وهي تحمل العكس. اللهجات في سوريا بالنسبة لي كالنجوم في السماء، لا أريدها أن تذوب في نجم واحد يغطي نصف السماء، فالشمس كفيلة بذلك.
كاتبة ومترجمة سورية