في قراءة ثالثة وأخيرة أقرّ الكنيست الإسرائيلي التشريع الذي يمنح رئيس الحكومة الإسرائيلية أو وزير الاتصالات صلاحيات الإغلاق الفوري لمكاتب أي وسيلة إعلام أجنبية «تضرّ بالأمن في إسرائيل» حسب النص المعتمد، ومصادرة معداتها، وإزالتها من شبكات مزودي البث التلفزيوني عبر الكابلات أو الأقمار الصناعية، وتعطيل الدخول إلى منصاتها المتوفرة عبر الإنترنت.
ورغم أنه لا يسمي جهات إعلامية محددة تشملها هذه البنود، فإن التشريع سرعان ما اكتسب تسمية «قانون الجزيرة» بسبب مسارعة رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو إلى تخصيص قناة «الجزيرة» القطرية بتدوينة على منصة X قال فيها: «قناة الجزيرة الإرهابية لن تبث بعد الآن من إسرائيل. أعتزم التحرّك بما يتوافق مع القانون الجديد لوقف أنشطة هذه القناة».
من جانبه لم يتأخر شلومو كرعي، وزير الاتصالات في حكومة نتنياهو ومهندس التشريع وأحد الصقور المتشددين في حزب الليكود، في توعد قناة «الجزيرة» بالإغلاق خلال الأيام القليلة المقبلة، مشدداً على أنه «لا حرية تعبير لوسيلة إعلام ناطقة بلسان حماس» أو تستخدم حرية الصحافة «للإضرار بأمن إسرائيل وجنودها» أو «تحرض على الإرهاب خلال زمن الحرب».
ولا عجب أن يصدر مثل هذا التشريع عن برلمان دولة استعمارية واستيطانية وعنصرية تواصل باضطراد تكريس منظومات الأبارتيد الأسوأ من سابقاتها في نظام جنوب أفريقيا البائد، باعتراف مراقبين كثر على امتداد العالم، وبينهم عدد غير ضئيل من اليهود والإسرائيليين أيضاً. وإذا كانت أغراض إسكات الإعلام المستقل سياسية في المقام الأول، فإنها غير بعيدة عن نهج التشدد اليميني والفاشي الذي يطبع حكومة نتنياهو بصدد الحريات عموماً، بما فيها حرمة القضاء الإسرائيلي ذاته الذي سعى الكنيست إلى تحجيم صلاحياته.
وغير مستغرب إقرار هذا التشريع من برلمان دولة تخوض منذ 178 يوماً حرب إبادة شاملة ضدّ الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، لم توفر خلالها وسيلة قتل همجية أو أداة تدمير شامل، وارتكبت جرائم حرب التجويع والعقاب الجماعي والتهجير وحقول الإعدام المفتوحة. ومصادرة حرية التعبير سلوك طبيعي من كيان فرغ لتوّه من التدمير التام لمجمع الشفاء الطبي فأجهز على عشرات المرضى والأطقم الطبية ودفن العشرات منهم تحت الأنقاض، ثم انتقل إلى جريمة أخرى فقصف قافلة منظمة «المطبخ المركزي العالمي» وقتل سبعة من متطوعيها أتوا من أستراليا وبولندا وبريطانيا وكندا.
ومن غير الاستثنائي أن يكون تشريع وأد الحريات الصحافية قد حظي بتوافق تامّ بين نواب الائتلاف الحاكم وما يُسمى بـ«المعارضة» على اختلاف تلاوينها، رغم الغباء الصريح المعلن خلف قانون رقابي لا صلة تجمعه بعصر الأقمار الصناعية والانفجار الرقمي الهائل في وسائل الاتصال والتواصل. أمر مألوف كذلك أن الفرقاء في الكنيست الإسرائيلي وضعوا خلافاتهم جانباً كي يتوحدوا لإقرار خطوة أخرى تفضح من جديد فاشية كيان تبارى أنصاره في تجميل قبائحه، تحت خرافة «واحة الديمقراطية» الوحيدة في الشرق الأوسط.
وبذلك فإن قانون الكنيست بإغلاق «الجزيرة» ليس أقلّ حماقة من مسعى حجب الشمس بغربال.