منذ بداية طوفان الأقصى وتداعياته، وقد مرّ عليه إلى الآن مئتا يوم، ونحن نحس بما لا يمكن أن يتحمله إنسان له حس إنساني. كنت أجدني بين الفينة والأخرى أتذكر ما أقدم عليه خليل حاوي، وأسترجع مقطعا من قصيدة بصوت كمال ناصر، يقول فيها «لقد كفرت بالإنسان». وأحاول استعادة الحروب الهمجية في التاريخ، لأجد نفسي أمام حرب لا نظير لها بما استعمل فيها من آليات، ووظف من تقنيات، ورُوِّج من خطابات بشكل لم يتحقق في أي من الحروب السابقة، حتى بالنسبة إلى إسرائيل عينها. كانت حروبها سريعة وتحقق فيها أكثر مما كانت تخطط له. لكنها في هذه الحرب، وقد طالت أكثر مما كان المتوقع أبانت أن إسرائيل منذ اليوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وما فعله في المتخيل الصهيوني، ما كان لها لتواصل هذه الحرب لولا الدعم الغربي، والمساعدات الأمريكية على المستويات كافة، بما فيها المشاركة المفضوحة. وأن كل ما يروج حول إسرائيل وقوتها ليس سوى فقاعات كاذبة. لقد أبانت المقاومة الفلسطينية، رغم كل الإكراهات، والادعاءات الزائفة حول مشروعية نضالها، والتشكيك في قدرتها على الصمود، من قبل الأصدقاء والأعداء على السواء، علاوة على التدمير الهمجي، والإبادة الجماعية للبلاد والعباد، أنها في مستوى إيمانها بقضيتها العادلة، واستماتتها من أجل نيل حقوقها. كما أنها في المقابل أبرزت هشاشة مزاعم الصهيونية، وأنها باطلة، ولن يضيع حق وراءه طالب.
لقد كشفت هذه الحرب على غزة والضفة الغربية حقائق مذهلة عن الإنسان الغربي المعاصر وطبيعته فوق الحيوانية، وإن كان يصر على أنه بات «إله» الكون، وأنه القادر على تسييره حسب مشيئته. كما أنها بينت بالملموس أن الإنسان عدو لـ»أخيه» الإنسان، وأن الدعوى الغربية ذات الأصل اليهودي ـ المسيحي، وهي تتحدث عن «الخطيئة» الأولى (Le péché originel ) لا يمكنها إلا أن تتكرر مع اغتيال قابيل لأخيه، وأن القول إن «الآخرين هم الجحيم» وما شابه هذا من الأقاويل ليس كل ذلك سوى تشريع لخطايا أخرى بدعوى التكفير عن الأولى. لماذا لم تجد كل الشرائع النبيلة، والقوانين التي سنها الإنسان، أو جاءت بها مختلف الأديان، في جعل الإنسان يعمل من أجل السعادة الأبدية للبشرية جمعاء؟ لماذا لم ينجح العقل الإنساني الذي خص به الله بني آدم عن غيره من المخلوقات في توظيفه خدمة للجميع دون تمييز بين الناس؟
إذا كان العقل الغربي يرى أن تاريخ البشرية الحقيقي لم يبدأ إلا مع النهضة الغربية وعصر أنوارها نتساءل ماذا نجم عن هذا العقل؟ لقد صنع التكنولوجيا، وطور العلوم، وحقق أشياء كثيرة لخدمة الإنسان بتطوير أنماط العيش، وجعلها مختلفة عما كانت عليه في العصور السابقة. لكنه في المقابل ساهم في تدمير الطبيعة منذ أن بات يرى أن عليه أن يستغلها. وفي الوقت نفسه عمل على إبادة شعوب وقبائل، واستعمار أمم بدعوى تحضيرها وإعمار أراضيها. وكانت الحرب الأولى والثانية، وكانت التدخلات في شتى أنحاء العالم من أجل فرض تصور العقل الغربي للعالم على العالم، دون احترام «حقوق» الآخر في أن يعيش الآخر وفق تصوره للعالم، ومع ذلك يتشدق بحقوق الإنسان؟
ليس تاريخ البشرية، خصوصا في العصر الحديث، صراعا عن معتقدات، أو بين طبقات، إنه صراع التنافس على من يمارس القتل أكثر من الآخر. إنه تاريخ الصراع من أجل القتل. ويجد العقل الغربي مسوغ ذلك في الكوجيتو الحقيقي: أنا أقتل إذن أنا موجود». وترجمته العملية: «إنني أحيا لأقتلك لأنك مختلف عني». لا يمكن للحياة أن تستمر إلا مع القانون «الطبيعي»: «البقاء للأقوى». أليس هذا المفهوم الأكثر تعبيرا عن الانتقاء الدارويني؟ إنه الكوجيتو الصهيوني رأي العين. تسنده في ذلك الآلة «العظمى» للقوة الأمريكية، والسند «الطبيعي» للعقل الغربي، وتدعمه في ذلك أيضا الأساطير التلمودية، وهي تجسد الحق التاريخي في تأكيد مقولة: «شعب الله المختار» وأن قتل الآخر شريعة ربانية. هجانة تجمع بين «العقل» و»الأسطورة» وتلك هي معضلة التفكير الغربي. إنه علماني حين يحارب الأديان الأخرى، ويهودي ـ مسيحي حين يتصدى للإسلام الذي تم اختزاله في كلمة واحدة هي: الإرهاب. وما الحرب على الشرق الأوسط سوى دليل على ذلك. ولعل في جعل هذا الشرق المختلف عن الغرب بؤرة للصراع الدائم سوى ممارسة للقوة التي هي نقيض الضعف والتفرقة التي يعاني منها هذا الشرق المتخلف.
إن تبرير شريعة القتل الهمجي من خلال هذا الكوجيتو الصهيوني تجد مدلولها في الشعار: إنني أحيا لأقتلك لأنني الأقوى. وما تمارسه الصهيونية، ومعها أمريكا، منذ السابع من أكتوبر سوى دليل على ذلك، ولا داعي للتفاصيل المخزية والفظائع التي بات يعرفها كل من يعيش على الأرض؟ لا يمكن لغير الصهيوني أن يعيش في هذه الأرض الموعودة. ولا يمكن للضعيف أن يكون قويا، وأن يفرض شروطه؟ سنظل نقتل ونمارس القتل أبدا. وإذا لم تنجح في أن تكون قويا، وعاجزا عن أن تكون، ما جدوى حياتك؟ إن البقاء للأقوى، وليذهب الآخرون إلى الجحيم.
كاتب مغربي